إن القرآن في أول تنزله نزل مرتلاً مستجيباً لحاجات الجماعة المسلمة التأسيسية، معرفيا،ً وتربوياً، وسياسياً، وتعبدياً، واجتماعياً، وتشريعياً، واقتصادياً، وأخلاقياً، محلياً ودولياً، مادياً ووجدانياً. واستمر ذلك إلى حين انبثقت خير أمة أخرجت للناس: "كنتم خير أمة اُخرجت للناس تاَمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" [اَل عمران، جزء من الآية: 110] كل ذلك عن طريق منهج تم إرساؤه بالترتيل فاتضحت معالمه إلى الحد الذي جاز معه –واقعياً– الأمر بالعمل به: "ورتل القرءان ترتيلاً" [سورة المزمل، الآية: 4] أمراً موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى كل إنسان مؤمن بهذا القرآن بعده، في كل زمان وفي كل مكان. وفعل الترتيل الذي يخالط شغاف قلب الفرد، وينداح من خلاله إلى كل نواحي واقعه، هو المُمَكّن من وظيفة التلاوة والمكمّل لها. وقد جاءت آيات سورة الفرقان واضحة بهذا الصدد إذ قال تعالى: "وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ولا ياتونك بمثل إلاَّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً" [سورة الفرقان، الآيتان: 32-33]، فالبيانات التي ينبغي أن تطلب من القرآن المجيد بمقتضى الترتيل، هي بيانات هداية تستجيب لحاجة الإنسان فردا وجماعة. وهذا هو الموطن الوحيد من كتاب الله تعالى الذي جاء فيه ذكر مادة [فسر]. والتفسير من الفسر، أي: البيان والإيضاح، ويتضح أن المراد بالتفسير في القرآن الكريم، هو أنه فعل بياني إيضاحي يتوجه من القرآن إلى الواقع، فقد بيَّن رب العزة في هذه الآية أن القرآن المجيد أوفق في تحقيق هذه المقاصد من محاولات الناس الحائرة، مخلصة كانت أو مغرضة. فإذا كانت الأمثال تُضرب لإلقاء الأضواء على ما يستشكله الإنسان؛ فإن القرآن المجيد يحق تلك الأمثال، يفتقها، يدمغها ويتجاوزها، ويفسر الإشكالات التي تعرض للإنسان في واقعه تفسيراً أسفر، ويلقي عليها أضواء أكشف، فالقرآن هو الذي يفسر الحياة والأحياء، وهو النور المضيء الهادي، ومتى ما عمد الإنسان إلى النور ينيره، وإلى الضوء يضيئه، وإلى المفسر يفسره فقد قلب المنهج: "قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اِتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" [سورة المائدة، الآيتان: 15-16]. الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء