قال الله العظيم: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [سورة اَل عمران، الآية: 104]. وقال: "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ" [سورة الاَعراف، الآية: 165]. تقوم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أصل النصيحة للأمة بمعنى المحافظة على مبادئها وحقوقها ومصالحها، وهذا أساس الدين وعماده؛ كما في حديث جابر الذي أخرجه مسلم قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"[1]. وكذلك؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم شرعه الشارع الحكيم لكل ضروب الموالاة والتناصر الإيجابي والتعاون الجمعي على البر والتقوى، ودرء التعاون على الإثم والعدوان... وهذا يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حركة مجتمعية، ووظيفة سياسية واجتماعية وإعلامية وتوجيهية قائمة على معنى التبصير والإقناع والحوار والمشورة والمفاوضة وتبادل الرأي حتى يدرك المعني بالأمر فائدة المعروف والأخذ به، ومفاسد المنكر وضرره على نفسه وعلى الناس، فتنشأ لديه الإرادة الطوعية لفعل الخير، أو إرادة ترك الشر عن رضا واختيار. إنها وظيفة تربوية توجيهية قائمة على أساس النصيحة، والرفق والإقناع الفطري، وليس على أساس الجبر والتحكم والوصاية؛ يستخدم الآمر فيها ما بوسعه من قوة فكرية وبيانية وجدلية لإقناع المدعو، وإسعاده على حل مشكلاته ومواجهتها بطرق صحيحة ومجدية، وتبصيره بعناصر القوة والضعف لديه، وعواقب سلوكه وتصرفه، وتشجيعه على أخذ القرار المناسب الذي يكون أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. وثمة نكتة عظيمة تنطوي عليها هذه الوظيفة الشرعية، وهي أن الإنسان إذا كان حرا في أن يؤذي نفسه، ويستهلكها باقتراف المحظور سرا، فليس له هذا الحق، ولا يملك هذه الحرية في أن ينشر الفساد ويجاهر به؛ لأن في ذلك إيذاء لجميع الناس، وإفسادا ونقضا لنظام المجتمع برمته. وهذا المعنى البديع أعني الالتزام بالمحافظة على حق المجتمع، هو ما ترجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ بيان إذ قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن يأخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا"[2]. فهذا الحديث الصحيح تصوير لما يجري في المجتمع، من تعارض المصالح، وتجاذب القوى بين مختلف شرائحه وأطرافه. فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأرض، أو هذه المجتمعات التي يعيش فيها الإنسان بالسفينة؛ وهي مكان يتعرض عادة للمخاطر الجسام، والأنواء الطارئة في أي لحظة، ليبين للناس أن هذه الأرض، وما عليها لا تقل تعرضا للمخاطر والعواصف عما يتهدد السفينة في بحر هائج لجي! والحديث تمثيل بليغ بنموذجين أو بصنفين من الناس: أحدهما: قوم ضلوا الطريق، وتنكبوا على الجادة، ففهموا الحرية فهما خاطئا، فوقعوا في محارم الله، فهم يرتعون فيها، ويصرون على هتكها وارتكابها. والثاني: قوم رأوا مواقعة المنكر، فسكتوا عنه، وأغمضوا أعينهم عما يجري في محيطهم من آثام وخروق، وكأن الأمر لا يعنيهم، وظنوا بأنفسهم وصنيعهم خيرا... فهذه روح شخصية الفريقين، فريق أصاب أعلى السفينة فهو يتمتع بجمال الكون، ونعمائه وثرواته، وتوفرت له أسباب الرفاه ورغد العيش، من ماء وغداء وضرورات الحياة، وفريق أصاب أسفل السفينة لا ينعم بما ينعم به شركاؤه في القسم الأعلى، فحتى الماء الذي هو مادة الحياة، وأهم ضرورات العيش كانوا محتاجين إلى جلبه من الأعلى بعد استئذان شركائهم. وهنا خطرت للقوم فكرة قالوا: لماذا لا نحدث ثقبا في نصيبنا وحيزنا، فغدوا على حرد قادرين إحداث هذا الثقب، فاستخرجوا المعاول والفؤوس، وأخذوا يضربون القاع لاستخراج الماء... فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن يأخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا. --------------------------------- 1. اسم الكتاب، مسند أحمد بن حنبل. 2. صحيح البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه.