قال الله تقدست أسماؤه: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"،[سورة ءال عمران،الآية:104]. وقال جل شأنه: "والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم" [سورة التوبة، الآية: 71]. تذكر هذه الآية بالواجب الاجتماعي المتعلق بجماعة المسلمين في كل حين... ذلكم القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين؛ الذي لو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد. إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير" [سورة اَل عمران، جزء من الآية: 104]. وهذا أمر ظاهره الوجوب، وفيه أن الفلاح منوط بإقامة هذا الفرض كقوله عز وجل: "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ءايات الله آناء الليل وهم يسجدون يومنون بالله واليوم الآخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين" [سورة اَل عمران، الآيتان: 113-114]. فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان والتعبد وقيام الليل، حتى أضاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهذا حد الصلاح ومنطوقه ومفهومه في القرآن المجيد: لا بد فيه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو عمل لا يقل شأنا عن الإيمان وقيام الليل. ليس من الإيمان، وليس من الدين، وليس من الفقه في شيء، أن يكون المرء صالحا في ذاته، مقبلا على نفسه، منصرفا عن غيره، بل كمال إيمان المرء، وفقهه ودينه أن يكون منفعة للناس، أن يعينهم على الخير، وأن يعينهم على التوقي من الشر، والتردي في خباله. وفي الحديث قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: "يا رسول الله أي الإسلام خير؟ فقال: خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم". فلاحظ كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم هنا مفهوم الصلاح الذاتي (أقرؤهم وأتقاهم) بمفهوم الصلاح الجمعي (آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم). وفي خطبة أبي بكر رضي الله عنه قال: أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها "يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" [سورة المائدة، جزء من الآية: 105]. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده"، ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم". وفي حديث ابن مسعود بيان نبوي بليغ كيف يندرس هذا القطب الأعظم المهم في الدين، وكيف تمنع المجاملات الاجتماعية ومداهنة الخلق تحقيق مقاصده، وكيف تتعطل وظيفته الإيجابية النافعة في حياة المجتمع؛ إذ يروي ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض".