مما يحمد لبعض علماء الأمة المعاصرين اجتهادهم في تجديد مجالات الاجتهاد المقاصدي ومعالمه ومسالكه، وهذه خطوة أولية تؤسس لمنهج علمي رصين يشكل الأرضية التي يجدد على ضوئها النظر المقاصدي. وقد أحسن الأستاذ المقاصدي أحمد الريسوني حين أشار في كتابه "نظرية المقاصد" على أنه لا يكفي أن نظل نؤكد على أهمية المقاصد وأنها ضرورية للمجتهد، بل لا بد من الاجتهاد لتحديد مجالات هذا العلم ومعالمه الهادية، خاصة وأننا نعلم أن هذه المجالات محددة بالظنيات التي تتغير مسائلها وفروعها بتغير الأزمان والأحوال. ولم يقف عند حد فرضية الاقتراح، بل شفعها بمبحث علمي متميز تناول فيه الخطوط العريضة لمسلك الاجتهاد المقاصدي، فجعلها أربعة: 1. النصوص والأحكام بمقاصدها؛ 2. الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة؛ 3. جلب المصالح ودرء المفاسد؛ 4. اعتبار المآلات. وقد نهج نفس المنهج الأستاذ نور الدين الخادمي في كتابه "الاجتهاد المقاصدي" حيث أكد على أن تجديد مجالات الاجتهاد المقاصدي فيه مراعاة من الشارع لتحقيق مصالح الإنسانية والحاجيات الحياتية المختلفة وفق الضوابط الشرعية المعلومة، وليس تقرير طابعها الظني الاحتمالي إلا لكونه ينطوي على عدة معان ومدلولات تتعين وتترجح وفق الاجتهاد المقاصدي وتقدير المصالح وشروط التأويل وغير ذلك. وهذه المجالات مجملة فيما يلي: 1. الوسائل الخادمة للعقيدة؛ 2. الوسائل الخادمة للعبادات؛ 3. التصرفات السياسية؛ 4. النوازل الاضطرارية؛ 5. النوازل المتعارضة؛ 6. عموم الظنيات. وهناك جهود محمودة أخرى تبذل في هذا الباب، ولكن يجب التنبيه إلى أخذ الحذر الشديد في ممارسة الاجتهاد المقاصدي، والتأكيد على عدم فتح المجال لغير أهل الصناعة المتخصصين من علماء الأصول والمقاصديين. فصحيح أنه يمكن الاستئناس بآراء غيرهم، ولكن العمل العلمي المنهجي المنظم يحتم عليهم الإشراف الكامل على الخطوات التي سوف تقطعها عملية التجديد المقاصدي. فلقد اختصوا بعلوم مهمة ومفيدة، فواجب عليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم في البحث عن مقاصد الشريعة، وهداية الحيارى والتائهين، وإرشاد الضالين، والجواب عن أسئلة السائلين الذين عجزوا عن إيجاد من يجيبهم عنها !! وهذا يزيد من ثقل المسؤولية الملقاة على العلماء المقاصديين، فعليهم المعول، ومن واجبهم أن يرفعوا عن الأمة أغلالها المفاسدية التي أنهكتها، وينيروا لها سبيلها نحو الصراط المستقيم، ويجددوا نهج شيخهم الإمام الشاطبي صاحب "عنوان التعريف بأسرار التكليف"، هذا العنوان الذي يهدي صاحبه بلطف عجيب إلى معاني الوفاق والتوفيق، والعمدة في كل تحقق وتحقيق، والمرجع في جميع ما يعن للمرء من تصور وتصديق. وصدق الإمام ابن رشد حين ذكر في كتابه "فصل المقال" أن النظر في مراد الشارع ومقاصده هو من اختصاص العلماء بحكمة الشرائع، الفضلاء العارفين بالنص الشرعي ومراده، والمهتمين بالحكمة والمقاصد، وبأن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها.