في تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي شخصيات فذة خلفت تراثا فكريا كثيفا وعميقا، لو استثمر كما ينبغي لأضاف لبنة نوعية في بناء الفكر الإنساني... من هذه الشخصيات الفيلسوف الطبيب الأديب أبو بكر ابن طفيل.. والمعلومات حول حياة هذا العالم الأندلسي نادرة، لكننا سنحاول تركيب صورة موضوعية حوله انطلاقا من المعلومات المتناثرة في ثنايا المصادر والمراجع بحثا عن إعادة تشكيل صورة عن النسق المعرفي الذي يؤطر أعمال هذا العالم الكبير... ومعلوم أن معرفة ماضي الفكر الثقافي والاجتماعي والأنثربولوجي من شأنه أن يساعد على تحليل آراء الفيلسوف وفهمها وتفسيرها ضمن سياقاتها المعرفية والإنسانية... ولد أبو بكر ابن طفيل ،سنة 500 ه بالقرب من غرناطة، لكننا لا نعرف شيئا كثيرا عن نشأته، إلا أنه يبدو وفق منطق الأشياء أنه تعاطى للعلم في سن مبكرة.. واتصل بالسلطة الحاكمة في المغرب والأندلس انطلاقا من كونه طبيبا مبرزا جامعا بين التنظير والتطبيق ونفع الناس.. وقد أصبح أبو بكر ابن طفيل كاتب سر أمير غرناطة لدى السلطة الموحدية الذي لم يكن سوى أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن بن علي، الذي ولي قبل ذلك ولاية سبتة وطنجة عام 549ه... وقد كنت ذكرت في مقالي حول الرحالة ابن جبير (جريدة ميثاق الرابطة، عدد 39) أن صاحبنا ابن طفيل اشتغل كاتبا عند الموحدين في الوقت الذي كان الرحالة ابن جبير الكناني يقوم بالدور نفسه.. من هنا نفهم معاصرتهما زمانا ومكانا، كما ندرك بعض جوانب الحركة العلمية والفكرية التي كانت سائدة في الإمارات الموحدية في الأندلس من خلال انخراط مثل هؤلاء الأعلام الكبار فيها، وكان ضمنهم أيضا العلامة أبو بكر بن حبيش.. وهذه قضية تعطينا فكرة موضوعية عن ثقافة "رجال الدولة" خلال هذا العصر من تاريخ المغرب المبارك... نعلم بعد ذلك أن أبا بكر ابن طفيل سيصبح الطبيب الخاص للسلطان الموحدي المثقف أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، كان ذلك سنة 558ه... قلنا أن الرجل كان طبيبا وكاتبا رسميا ومثقفا كبيرا، لكن شهرته تجلت أساسا في ميدان الفلسفة والنظر العقلي عبر طرح أسئلة الوجود الكبرى من خلق ونشوء وارتقاء وفتق ورتق، واهتم بقضية العلاقة بين الفلسفة والدين، وبذل في سبيل إبراز الأبعاد المعرفية الكونية لهذه العلاقة جهدا عقليا تأمليا ونظريا، مستعملا في كثير من الأحيان تعبيرات صوفية عميقة تستلهم من ماء الكون.. فالرجل كما يقول عبد الواحد المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" "كان قد صرف عنايته في آخر عمره إلى العلم الإلهي ونبذ ما سواه، وكان حريصاً على الجمع بين الحكمة والشريعة، معظماً لأمر النبوات ظاهراً وباطنا"... وتعتبر رائعة "حي ابن يقظان" مُركّزا للآراء الفلسفية والوجودية التي حاول صاحبنا ابن طفيل إيصالها إلى المجتمع بحثا عن الترقي الفلسفي، وإدراكا منه أن الهوية الدينية لا تتجسد ماهويا إلا عبر ربط الإيمان القلبي بمعطيات السيرورة الكونية وفق منطقي جدلي يرى أن الكلام في الدين لصيق بالكلام في الحكمة وفق قواعد المنهج المعرفي الإسلامي ذي الطبيعة الإنسانية.. فالدين في بعده الفلسفي معادل موضوعي لحركة الكون عبر تجسيد الطبيعة في ماهية النظر الديني وفي إعلان الوعي العقلي... خلاصة رائعةِ "حي بن يقظان"، أن حيًّا الذي سميت القصة باسمه أُلقي طفلا صغيرا في جزيرة خالية نائية، فأرضعته ظبية، وشب الفتى متوقد الذكاء عظيم المهارة، فكان يصنع لباسه من جلود الحيوان، ودرس النجوم والفلك، وشرَّح الحيوانات حية وميتة، وتعرف على ما تنبث الأرض، وأكل من طعام الكون حتى أدرك مستوى رفيعا في علم الطبيعة، وهو الذي شرب حليب "الظبية" واختلط دمه بدمها مجسدا بذلك الشراكة الأبدية بين الإنسان والحيوان... وهاهي الفلسفات البيئية المعاصرة في أرقى مستوياتها الأكاديمية تتحدث عن الحيوان كشريك في المحيط الحيوي... ثم انتقل صاحبنا حي ابن يقظان من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة وعلوم الدين، فأدرك علاقة الكون بخالقه، وجدلية الغيب والإنسان والطبيعة، ثم عاش معيشة الزهاد، مثلما حدث لابن طفيل نفسه، ومنع حيُّ بن يقظان على نفسه أكل اللحوم، واكتفى بحشائش الأرض، مثلما سيفعل بعد ذلك أبو يعزى يلنور (مولاي بوعزة) في جبال إيروجّان عندما اكتفى بما تنبت الأرض واختار الحيوان كشريك، واستطاع ابن يقظان أن يتصل اتصالاً روحياً بموجد الوجود... والجدير بالملاحظة، انطلاقا من رائعة "حي بن يقظان"، أن صاحبنا ابن طفيل، وهو عالم الطبيعة الممارس، أكد على أن طرح مسألة علاقة الدين بالفلسفة لابد أن تمر عبر تعمق في معطيات الطبيعة وأسرارها.. فالمسألة هنا ليست شاعرية أو بلاغية، بل علمية بالأساس.. ومنه نفهم أن أي "علم كلام جديد" يروم البحث في علاقة الدين بالفلسفة في سياق جدلية الغيب والإنسان والطبيعة لا بد أن يراكم عناصر الوجود الكوني عبر الغوص والتنقيب والتشريح –كما فعل حي بن يقظان، وكما فعل ابن طفيل- قبل أن يطرح سؤال الدين كأكبر سؤال يمكن أن يطرح على الإطلاق... نقرأ أيضا في رائعة "حي ابن يقظان" أن ابن طفيل يعرض لرأيه في خلود النفس، والفرق الماهوي بينها وبين الجسم، وخلص إلى أن النفس تمثل حقيقة الإنسان، وهي بذلك باقية بعد فناء الجسم، وأجدر بالخلود، والاتصال بواجب الوجود، وقسم العلاقة بين النفس وواجب الوجود، تبعاً لحالة النفس في حياتها الدنيا، فتنال الجزاء وفقاً لتلك الحالة، والسعادة والشقاوة هنا مسألة روحية بالأساس... بعد أن بلغ حي التاسعة والأربعين أصبح مستعدا لتعليم الناس وتبليغ رسالته في فلسفة الدين وكلام الوجود. في هذه المرحلة من حياة حي بن يقظان، سيلتقي بمتصوف يدعى آسال استطاع الوصول إلى جزيرة حي باحثا عن الوحدة التي تسود الكون، فكان هذا أول إعلام لحيٍّ بوجود بني آدم في الأرض.. بعد ذلك سيقوم آسال بتعليم حي صناعة الكلام، وأخبر آسال حيا ابن يقظان بما في عقائد الناس الدينية في الأرض من سطحية وغلظة وخشونة، وأظهر له أن الناس لم يحصلوا الحد الأدنى من الأخلاق إلا طمعا في الجنة وخوفا من النار... فعقد حي العزم أن يغادر الجزيرة لينشر فلسفته الدينية بين بني البشر.. فلما وصل إليهم أخذ يدعوهم في السوق العامة إلى "الدين الجديد" وهو جدلية الغيب والكائنات ووحدتهما، لكن الناس لم يفهموا أقواله وانصرفوا عنه. وأدرك أن الناس لا يتمثلون الدين في "النظام الاجتماعي" إلا إذا مزج بالمعجزات، والطقوس والمظاهر.. وعاد حي ابن يقظان إلى جزيرته، وعاش مع المتصوف آسال يرافق شركائه في الطبيعة ويتحد مع معطياتها، ويتعلم أسمائها مثلما فعل آدم الذي تعلم "الأسماء كلها"..، وبقي حي مع آسال في رحلتهم الوجودية في الطبيعة مع الله إلى أن اختلط جسمهما بالتراب ليعود إلى دورته الكونية عودا على بدء وفق طبائع الخلق الكوني... يبين صاحبنا ابن طفيل أن الدافع الذي ألهمه لكتابة رائعة "حي ابن يقظان" سؤال أثاره أحد المهتمين بقضايا الخلق والنشوء والارتقاء الذي طلب منه وضع إجابة عن سؤال يتمحور حول أصل المعرفة الإنسانية... ويصف ابن طفيل الحالة الوجودية التي اعترته وهو يتأمل في هذا السؤال الكوني بقوله: "وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل إليها وانتهى إلى حد من حدودها أن يكتم أمرها أو يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل، وإن كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل". خلاصة القول أن الفيلسوف ابن طفيل، وهو المتكلم الكبير يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسئولية الدينية تقتضي اكتشاف النفس والعالم عبر التأمل والتفكير، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات وبأصل الوجود، وصولا إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين.. واكتشف ابن طفيل بعين العقل وحكمة النظر عبر حي ابن يقظان أن الخالق روح مطلق ونور محض خالص لا بل هو نور لا كالأنوار إذ هو بريء عن المادة منزه عن الصور عظيم بقدرته، وذهب به التأمل إلى القول بحدوث العالم بعد أن لم يكن، وأن الله أخرجه إلى الوجود وأنه هو القديم الأزل الذي لم يزل... نعم أزلية الخالق ومطلقية الإنسان داخل الطبيعة، بما يفتح المجال أمام الإنسان لإبداع كوني لا حدود له.. لقد حظيت رائعة ابن طفيل باهتمام كبير في الأدب العالمي، وشرفت الثقافة الإسلامية والعالم، وتقاطرت عليها الدراسات الفلسفية والتربوية والأدبية، ولطالما بحث الدارسون عن وجوه الشبه بينها وبين مثيلاتها من القصص الفلسفية الغربية والعالمية، وقد بينت هذه الدراسات النقدية أن الأحداث الدرامية في قصة حي موجهة بوضوح تام لخدمة هدف فلسفي شُغل به العصر الذي عاش فيه ابن طفيل، وهو التوفيق بين ينبوعي المعرفة المتمثلين في الوحي والفلسفة .. وقد حاول الكثير من الأدباء والمفكرين إبراز التشابه الظاهر بين "حي بن يقظان" وبين قصة "دانييل ديفُوِ" Daniel De Foe المعروفة "روبنسون كْرُوزُوِ" "Robenson Grousoe"، ويعتقد كثيرون أن دانييل ديفو قد اقتبس فكرة قصته من الأبعاد الفكرية والأدبية والجمالية الواردة في قصة "حي بن يقظان"... لكن الملاحظ أن بطل قصة De Foe إنسان اختلى في الجزيرة بعد أن اكتسب في حياته العادية مع بني البشر تجارب شخصية كثيرة، فهو بمعنى من المعاني أقل "طبيعية" من حي بن يقظان، لكن فكرة العودة إلى الطبيعة التي حاولDE Foe أن يدعو إليها من خلال روبنسون كروزو، جديرة بالتقدير والاعتبار، ولو أنها لم ترْقَ في نظري إلى التناول الفلسفي العميق الذي طبع رائعة صاحبنا ابن طفيل.... وإذا كانت شهرة ابن طفيل كفيلسوف وطبيب قد بلغت الآفاق؛ فإن سيرته الأدبية بقيت مجهولة إلى حد كبير.. وقد أفادنا المقري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر -بيروت– لبنان (1 /607–612) برسالة رفيعة المستوى كتبها أبو بكر بن طفيل تخليدا لدخول المصحف العثماني إلى المغرب في بداية عهد الموحدين، في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام عبد المؤمن بن علي الكومي، وقد قوبل دخول هذا المصحف باحتفاءٍ منقطع النظير، حاول ابن طفيل أن يصف بعضاً منه.. ويبدو من خلال الرسالة الأسلوب الأدبي الأنيق والكثيف معرفيا، بحيث يمكن اعتبار هذه الرسالة وثيقة تاريخية تؤرخ لفترة مفصلية في تاريخ المغرب الفكري، بالإضافة إلى قيمتها الأدبية واللغوية... يقول ابن طفيل في رسالته: "وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيّران، وأميراها المتخيَّران، السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف، ومازال ينقله خلف عن سلف، قد حُفظ شخصُه على كثرة المتناولين، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين، وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس، وتَحَفَّظَه من أهل الأندلس الرائسُ والمرؤوس، فتلقّي عند وصوله بالإجلال والإعظام، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام، وعكف عليه أطول العكوف والتُزِم أشدّ الالتزام، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبَرٌ لأولي الألباب، وبلاغ في الإغراب والإعجاب، وذلك أن سيّدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين، أدام الله له عوائد النصر والتمكين، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم، وحرّكته إليه دواعي خلقه العظيم، وتراءى مع نفسه المطمئنّة المرضيّة، وسجاياه الحسنة الرضيّة، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه، فأوصله الله إليه تحفةً سنية، وهديةً هنية، وتحيّة من عنده مباركة زكية، دون أن يكدرها من البشر اكتساب، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقّه، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقّه، ما اطُّلِعَ بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه...". ثم إنّهم أدام الله سبحانه تأييدهم، ووصل سعودهم، لِما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزيز، شرعوا في انتخاب كسوته، وأخذوا في اختيار حليته، وتأنقوا في استعمال أحفظته، وبالغوا في استجادة أصْوِنته، فحشروا له الصّنّاع المتقنين، والمهرة المتفنّنين، ممن كان بحضرتهم العليّة، أو سائر بلادهم القريبة والقصية، فاجتمع لذلك حذّاقُ كل صناعة، ومهرةُ كل طائفة، من المهندسين والصواغين والنظّامين والحلائين والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين، ولم يبق من يوصف ببراعة، أو ينسب إلى الحذق في صناعة، إلا أحضر للعمل فيه، والاشتغال بمعنى من معانيه... وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم...". ثم يخبرنا ابن طفيل أن المصحف "كُسي كلّه بصوان واحد من الذهب والفضّة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه، لا يشبه بعضها بعضاً، قد أجري فيه من ألوان الزجاج الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال، ولا عَمَرَ قبله بشبهه خاطرٌ ولا بال، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم، قد أسلست للتحرّك أعطافها، وأُحكِم إنشاؤها على البُغية وانعطافُها، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدّرّ وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده، وتتوارثه على مرور الزمن وترداده، وتظنّ العز الأقعس، والملك الأنفس، في ادخاره وإعداده، وتسمي الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلَم لشذوذه في صنفه واتحاده، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألؤه واتقاده، وأشبهه الروض المزخرف غبَّ سماء أقلعت عن إمداده... فعُمِل فيه على شاكلة هذا المقصد، وتُلُطِّف في تتميم هذا الغرض المعتمد، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر، ذي حلية خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر، ورتب ترتيباً يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر، فيلتئم به التئاماً يغطي على العين من هذا الأثر، وكمل ذلك كلّه على أجمل الصفات وأحسنها، وأبدع المذاهب وأتقنها، وصنع له محمل غريب الصنعة، بديع الشكل والصيغة، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك، ويشتد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك، مغشىًّ كلّه بضروب من الترصيع، وفنون من النقش البديع، في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع، لم تعمل قطّ في زمان من الأزمان، ولا انتهت قطّ إلى أيسره نوافذ الأذهان، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال، ويشاركه في أكثر الأحوال، مرصّع مثل ترصيعه الغريب، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب.. وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر، وفرائد العمر، أمروا -أدام الله تعالى تأييدهم- ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش –حرسها الله تعالى- فبدئ ببنيانه وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور، على أكمل الوجوه، وأغرب الصنائع، وأفسح المساحة، وأبعد البناء والنجارة، وفيه من شمسيّات الزجاج وحركات المنبر المقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستُغرِب تمامُه، فكيف في هذا الأمر اليسير الذي لم يتخيّل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلاً عن بنائه؟ وصليت في الجمعة منتصف شعبان المذكور، ونهضوا -أدام الله سبحانه تأييدهم- عقب ذلك لزيارة البقعة المكرمة، والروضة المعظمة، بمدينة تينملل أدام الله رفعتها...". فنحن نرى هنا ابن طفيل يأتي بمعلومات تاريخية وعمرانية وصناعية وهندسية، ويؤرخ لبناء المسجد الجامع بمحروسة مراكش، ويصف بدقة مراحل دخول مصحف عثمان إلى المغرب.. والجدير بالملاحظة أن موسوعية هذا الرجل العظيم مثيرة للانتباه، ذلك أنه مع تعمقه في العلوم الطبيعية نجده قد ملك أسرار اللغة والأدب، وصولا إلى إبداع فلسفي عز نظيره في دنيا الإسلام... توفي أبو بكر ابن طفيل بمراكش -حرسها الله- سنة 581 ه، رحمه الله ونفعنا بعلمه، والله الموفق للخير والمعين عليه..