يصوغ الإسلام الفرد صياغة إيجابية فاعلة مستقيمة بانية تمكنه من التواصل والاندماج مع أفراد مجتمعه والمساهمة في بناء صرحه الحضاري الإنساني باتجاه أن تتألف من أفراده الأمة الخيرة، ويكون جسمه متسلحا بمناعة قوية تجاه كل ما يفسد للود والوئام قضية، هذه المناعة المتمثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعديهما الرحب، بمعنى الأمر كل خير وفضيلة مفيدة نفسيا وقلبيا، ظاهريا وباطنيا وحسيا وعقليا، والنهي عن كل شر ورذيلة مضرة جسميا وروحيا، بالفرد والجماعة دنيويا وأخرويا. وأثمن ما على الأرض من ثروة إنسانها بدليل أن الله فد جعله خليفته فيها، قال سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة" [سورة البقرة، الآية: 30]، لذلك اهتم الإسلام ببناء وتهذيب مستويات الفعل الأربعة فيه ليكون أهلا للاندماج والتعاون مع جماعته بغية التشرف والتكلف بمسؤولية الخلافة، وهذه الأربعة هي: مستوى أحاسيسه تجاه جماعته، مستوى تخاطبه معها، مستوى مظهره ومستوى سلوكه تجاهها وبينها. 1. مستوى الأحاسيس والمشاعر لابد لكل فرد في نظر الإسلام يريد أن يكون فاعلا في جماعته، عنصرا مقبولا مدمجا إيجابيا بغض النظر عن مستوى أهليته أو قدراته أو جهده أو لونه أو وطنه... أ. أن يمتلك شعورا قويا وغامرا بالرغبة في الخير لكل الناس على اختلاف في هذا الخير حسب اختلاف الناس، لكنه يبقى في عمومه خيرا. وهذا الشعور الجمعي الخيري يعتبر واجبا دينيا بل من أساسيات الإيمان، لقول الرسول محمد عليه أفضل التحيات وأزكى السلام: "لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" [أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم 13] فالأقوال والأعمال مرتبطة كما هو معلوم بنوع الشعور الذي يغمر قلب صاحبها قبل العمل وعنده، وصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..." [أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب برقم 1]. ب. الشعور بالانتماء لجماعته البشرية فرغم أن الإنسان اجتماعي بفطرته؛ فإنه لابد أن تتعزز بالتبصر والوعي والقصد إلى التفعيل ليؤتي هذا الشعور أكله عمليا، ثم ضرورة حرص الفرد على البقاء مرتبطا بهذه الجماعة لحاجته الماسة إليها في تحقيق سكينته النفسية وأنسها بين أفراده، وفي تحقيق مآربه الدنيوية وغاياته الأخروية، ولتحمي ظهره بعد الله من كثير من المخاطر. قال عليه الصلاة والسلام: "... فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" [المنذري في الترغيب والترهيب عن أبي الدرداء برقم 208 /1]. ج. الشعور بأمانة الاستخلاف في جماعته وعليها، واستشعار الحس الجماعي المؤدي إلى تحمل المسؤولية داخلها، وقد ساد لدى الكثير منا اليوم شعور متبلد متملص يناقش بكثرة قضايا المسؤوليات الجماعية من دون أن يتجشم سؤال نفسه يوما عن دوره فيها، مما يجعله نشازا عن مجتمعه ويكرس عزلته عنه وسلبيته داخله، قال الرسول الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم في آخر حديث طويل: "... ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" [أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رقم 2554]، ليرسم عليه السلام بذلك للمسؤولية دوائر تضيق وتتسع حسب موقع الفرد في جماعته. د. الشعور بحوائج أفراد المجتمع أو المجتمع كله، والتعاطف معه والاهتمام بهمه والاغتمام لغمه تعبيرا من الفرد أنه عضو من مجتمعه مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه مسلم النعمان بن بشير برقم2586]. كل هذه الاعتقادات وغيرها، قناعات إيمانية يرسخها الإسلام في قلوب معتنقيه تجعلهم ينظرون إلى مجتمعهم نظرة إيجابية في كونه مجالا لممارساتهم الراشدة التي يجدون فيها ذواتهم، وحقق معظم تطلعاتهم ،مما يسوقهم بشوق نحو الاندماج الإيجابي فيه. 2. مستوى القول الأصل لدى الإنسان المسلم أن لسانه يتأرجح بين وضعين لا ثالث لهما: إما أن يتلفظ بما يدعو ويشجع على التواصل، وإما أن يحجم عن كل ما يسبب القطيعة والتدابر، وذلك انسجاما مع قناعاته السابق ذكرها، يشير إلى الوضع الأول قوله عز وجل: "وقولوا للناس حسنا" [سورة البقرة، الآية: 83]، وقوله أيضا: "يا أيها الذين أمنوا اِتقوا الله وقولوا قولا سديدا" [سورة الاَحزاب، الآية: 70]، كما يتضمن الوضعين معا قوله عليه السلام: "... ومن كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" [رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم 6126] ومن القول الحسن الذي يفضي إلى انسجام الأبدان والعقول بل والقلوب قبل ذلك: أ. إفشاء السلام: أول ما ينبغي من تعبير لفظي على ما يعتمل في صدر وقلب الفرد المومن تجاه أفراد مجتمعه من أول لقاء بهم حيث يفتح ذلك أفئدتهم له فيقبلون عليه ويقبلونه فردا منهم، كيف لا وهو قد أعلن مسالمتهم في أنفسهم وأموالهم وأعارضهم، فكيف لا يحوز محبتهم. قال عليه الصلاة والسلام "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" [رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص برقم 6484]، يستشعر قيمة دلالة هذا الحديث كل من الفرد ومجتمعه فتسري فيهما روحه، مما يستدعي توافقا كبيرا بينهما. ب. الحرص على إسداء النصح، وتوجيه أفراد مجتمعه لما يحب أن يرى نفسه عليه من استقامة وصلاح، مما يوصلهم إلى الفلاح في دنياهم والفوز في أخراهم، فيكون الفرد بذلك قد قبس قبسة من ميراث النبوة وأخذ بسنة من سنن سيد الخلق عليه الصلاة والسلام الذي كان يحرص على إنقاذ المؤمنين من النار بتنبيههم عما يضرهم، وإرشادهم لما ينفعهم قال عليه السلام: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي" [رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله برقم 2285]. ت. تلفظه بالكلام اللين الرقيق مع أفراد مجتمعه؛ لأنه أحد مفاتيح قلوبهم أمامه، والكلام الطيب كل كلام مورق مزهر في شكله، مثمر في مضمونه، ولهذا الغرض انتدب الإسلام أهله للاتصاف بهذا الوصف الجميل، وتحلية مظهرهم ومخبرهم به قال عليه السلام: "والكلمة الطيبة صدقة" [رواه البخري عن أبي هريره ري الله عنه برقم 2891]. هذه أمثلة عن المستوى اللساني الذي ينبغي للإنسان الفرد أن يسلكه ليسهل اندماجه في مجتمعه، والأمثلة في هذا المجال لا تكاد تحصى. 3. مستوى المظهر ويتعلق الأمر بتجليين: أحدهما مظهر اللباس الأنيق الجميل المبهج الساتر للعورة المحددة شرعا، إذ الرغبة في تميز الفرد عن مجتمعه خارج هذه الضوابط مما يحدث تنافرا بينه وبين محيطه، وتندرج هذه الضوابط ضمن عموم معنى قوله عز وجل: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد" [سورة الاَعراف، الآية: 30]، وثانيهما سيماء وجهه التي يعبر بها أيضا عن خلجات نفسه وما يعتمل قلبه، فهذا رسول البشرية عليه الصلاة والسلام يرغب المومن في أن يكون هشا بشا غير مكفهر الوجه ولا عبوسا حين يقول: "تبسمك في وجه أخيك صدقة" [أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب عن أبي ذر الغفاري 365\3]، ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" [أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري برقم 2626]. فقد يزدري أحد هذا الجانب من حياته الفردية، ويتجاهل فيها ضرورات محيطه، فتكون مشوشة على علاقاته بمحيطه، والإشارة في توجيهات الإسلام إلى هذه المجالات في حياة الفرد دليل شمولية تعاليمه السمحة لكل مجالات كيان الإنسان الظاهرة منها والباطنة. 4. مستوى السلوك ويتجلى في عدة عناصر متكاملة ومتراوحة بين الفعل والترك منها: أ. صوغ الفرد حياته وفق مصلحة جماعته دون الأنانية والجشع الذي قد يؤدي إلى المساس بكيانها وزعزعة استقرارها على مختلف الأصعدة. ب. سعيه في حاجة أفراد مجتمعه بما يتواءم والواجب الكفائي الذي أناط الله بعض مسؤوليته إليه وذلك حتى تتمهد قلوبهم لقبوله فردا منهم، فيعينه الله على سرعة الاندماج معهم، وصدق الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إذ يقول: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" [أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي اله عته برقم 2699]. فالفرد المومن لا يتكل على مجرد الأسباب، بل يأتي بها تعبدا متوكلا على مسببها سبحانه، وهذا ما ينبغي أن يستعين به العبد المومن وهو يسعى إلى الاندماج مع مجتمعه مستأنسا بحديث نبي الرحمة: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل، إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الارض" [رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم 6040]، وحديث: "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" [رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم 6502]. ج. سعيه إلى تجنب كل سلوك يضر بغيره فيجعله بسببه منبوذا داخل جماعته، وهذا يتوافق مع لغة السلام التي طلبت منه في المستوى الثاني حين أُمر بإفشاء السلام، وتمثل معناه بين أفراد مجتمعه. هكذا ترون أعزاء القراء، أنه لو التزم كل فرد بهذه التوجيهات الإسلامية في هذا المجال، -فضلا عما سبق أن بسطته في مقالة العدد 21-22- من هذه الجريدة المباركة فيما يتعلق بواجبات المجتمع في إدماج أفراده، لتجنبت المجتمعات والأفراد كثيرا من الصراعات والانحرافات التي جنت على الأمة الإنسانية اليوم.