لعل مما يساعد في حسن تدبير الاستفادة من زخم المعارف والأفكار المتكاثرة، التي يهدف جلها خدمة الإنسان روحا وجسدا، ومواجهة خطر التعامل التجزيئي معها، الاقتناع بأنها قد تنفع المتفكر فيها بنوعين من النفع لا ثاني لهما، نفع يتجه إلى الروح ونفع يتجه إلى الجسد. ولنبدأ بالكلام عن مدى انتفاع المسلم روحيا من معطيات المعارف البشرية، ما دام الفكر تتوقف فعاليته على امتلاك أساس الهداية الإلهية الممنوحة للبشرية على مدى الزمان والمكان، إذ النفع الروحي ضمن الإنتاج المعرفي البشري ضئيل للغاية بالنظر إلى ما يشتمل عليه من خبط وتيه، نتيجة إقحام العقل فيما يفوق طاقاته ويزيغ عن اختصاصه. فقد ينطلق من معالم تراث روحي، ثم يتوسع في إبداع امتدادات وتفاصيل وممارسات تشذ عن الأصل وتطمس حقائقه، أو يختلق نهجا روحيا عقليا لا يمت إلى الوحي بصلة، وقد تعددت مدارس هذا النوع وتزايدت في العصر الحديث، ناهيك عن الفلسفات والمذاهب التي محورت فكرها حول أساس إنكار الروح وازدراء ما يرتبط بها. فلكي يحصل المرء نفعا معرفيا على مستوى الروح، يحتاج إلى اعتماد المعارف الدينية المستندة إلى وحي محفوظ من كل تحريف، والتي وحدها الكفيلة عندما يتمسك بها الإنسان وينطلق من توجيهاتها، أن تمكنه من إبصار الحق حيثما كان، وتمييزه عما علق به من الأوهام والأباطيل وهي كثيرة، لا تكاد صورها ونماذجها تعد أو تحصى، وإدراكها على حقيقتها يقوي الاستمساك بالحق ويزيده في النفس إشراقا وبرهانا، كما أن المعارف الموجهة لخدمة الجسد، لا تخلو هي أيضا من استفادات روحية بليغة، باعتبارها من آيات الله في الآفاق والأنفس، الدالة على جلاله وجماله وكمال صفاته، والتفكر في هذه الآيات بعد الآيات المقروءة غذاء للروح لا ينفد ولا يشبع. ومجال آيات الآفاق والأنفس لا يتحدد بعلوم الطبيعة، وإنما يتسع ليشمل كل العلوم والمعارف الإنسانية من تاريخ واجتماع وجغرافيا وأدب وفن وسياسة واقتصاد وغير ذلك، مما يثمر التفكر فيه حياة النفس وزيادة إيمانها، وتدقيق معلوماتها وتصحيحها واستشعار ثقل الأمانة الملقاة عليها فرديا وجماعيا، لذلك أولى القرآن الكريم هذا النوع من المعارف الإنسانية أهمية تقارب التي أولاها لنتائج التأمل العميق في الكائنات الحية والجمادات، وما أصبحت العلوم المخبرية تميط عنه اللثام من خفايا إتقان الخلق وأسرار تدبير أمره. فما أكثر ما دعانا القرآن لتلمس دلائل الحق في آيات القرآن نفسه، وإلى الاعتبار بأوضاع وتجارب السابقين، فيما يتعلق بموقفهم المناوئ لدين الله وليس بإنجازاتهم الحضارية المادية، والتي قد تكون مثيرة للدهشة والإعجاب، "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الاَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [سورة اَل عمران، الآية: 137]. فهذا التوجه البارز في القرآن يرتكز إلى خلفية منهجية، تعطي الأسبقية في كل ما يطالعه المسلم على صفحات الكون، كما على صفحات الكتب إلى ما ينمي في نفسه الإحساس بأمانة الاستخلاف، ويحفزه إلى النهوض بها وتقويم الظواهر والأحداث والأعمال من خلالها، كما هو واضح من هذه الآيات: "قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [سورة المائدة، الآية: 100]، "هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" [سورة إبراهيم، الآية: 52]. والمسلم عندما يقرأ ما يقع بين يديه من هذه المعارف، يخرج منها بأعظم فائدة روحية، بعد أن تكون قد أثارت تفكيره ووصلته بالله الخالق العليم الحكيم، ويجد أن ما تضمنته من الحقائق يؤكد ويدعم نظرته الكلية الاستخلافية المفسرة لسر وجود الإنسان وخلق الكون وبعثة الرسل، وبعث الناس ليوم الحساب وتحديد المسؤوليات التكليفية، التي تبلورت في الذهن من تعلم الإسلام وفهمه وممارسته. فالمواقف الفكرية والتجارب الحضارية الإنسانية المختلفة في كل المجالات، لا تعدو أن تكون تفاعلا للفكر مع خلق الله في النفس والكون، مما يكشف للروح المتأملة قدرا من حكمة الله في ابتلاء الإنسان بالحياة ومفاتنها ومكابداتها العديدة،: "يوْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يوْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ" [سورة البقرة، الآية: 269]، وكما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"[1]. وإذا أحسن المرء التفكير من المنظور الاستخلافي في أي علم، تجلى له صوابه فسعد بمعرفته، وتجلى له عوجه وانحرافه، فابتهج بعدم التباسه عليه كما التبس على من مال إليه وانخدع به، وربما أقام نظرته للحياة على أساسه. فتعلم الحق لا يتأتى بالتعرف على محاسنه ومنافعه فحسب، وإنما يحصل أيضا بالتعرف على الباطل ومساوئه وشروره. فقد يلج الفكر إلى رحاب الحق من باب الباطل عندما يتضح تهافته وبطلانه في الذهن، ويتبين الفكر أضراره ومخازيه، أو تقاسي النفس مفاسده ومهالكه في الواقع، فتحمله على الميل إلى الرشد والعض عليه بالنواجذ. والحمد لله على هدايته وتوفيقه --------------------------- 1. سنن ابن ماجه والترمذي وضعفه الألباني.