بداية أشكر الأستاذة الكريمة نبوية عبد الصمد العشاب على هذا الموضوع المهم وعلى هذه الأسئلة الحرجة لواقعنا المر الذي لم يعد يخفى على أحد خطورته. بصراحة ما عاد يجدي فقط تشخيص الداء وتعرية الأمور، فنحن منذ زمن طويل والكل يصرخ وينادي بالويل والعويل والثبور... على أخلاق مجتمعنا المتردية والتي لا تزداد إلا انحطاطا بعد انحطاط. وقد اجتهد المصلحون عبر السنوات الطوال في إصلاح أخلاق المجتمع وتقويمها... ولكنا نجد المجتمع يزداد تفسخا ودمارا. فأين الحل؟ كيف نستطيع أن نجد حلا لأزمة الأخلاق بعد ما شخصنا الأزمة وعرفنا المشكل؟ لا أروم الكلام هنا عن خطورة الأخلاق وضرورته في أي مجتمع وفي أي حضارة، فالكل متفق على أن الحضارة هي الأخلاق، وإذا فسدت الأخلاق فسدت الحضارة، ويكفي في ذلك أن أردد البيت الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا والأخلاق –إخوتي- لا تنحصر في معنى معين، بل الأخلاق هي كل ما يتخلق بها الإنسان ويحيى بها مع نفسه ومع ربه ومع الناس بل ومع المحيط كله. وعالم الأخلاق عالم أوسع بكثير من عالم العبادات والمعاملات والأحكام الشرعية... و"المرء يدرك بحسن خلقه درجة القائم الصائم" كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح. فالكلام الطيب من الأخلاق، وحسن الظن بالناس من الأخلاق، والتواضع من الأخلاق، والتفاني في العمل من الأخلاق... وأعظم شيء في الأخلاق أن يتوافق باطن الإنسان مع ظاهره فيكونان معا أداة في إعمار الأرض بصورة يقبلها رب الأرض والسماء. استوقفني موضوع الأستاذة الكريمة وأحببت أن أشارك فيه بهذه الخواطر–أسميها هموما– وأحببت أن أجتهد في وضع يدي على الداء محاولا إيجاد الدواء وإن كان الدواء غير سهل -لتعقد المجتمع ودخوله في دوامة متشعبة لا يجدي فيها الخطاب الديني فقط – رغم أني مقتنع بأن الخطاب الديني له الدور الأكبر في إصلاح هذه الأخلاق السيئة. وأزمة الأخلاق هذه التي ندندن حولها لها عدة أسباب، وبطبيعة الحال بما أن لها عدة أسباب فلها عدة حلول بإذن الله تعالى. لكن يبقى أن هناك بعض الأسباب أكثر تأثيرا في تدني أخلاق مجتمعنا من الأسباب الأخرى، والأولى للأولويات وللهامش الهوامش. وفي رأيي أن أول سبب كان مباشرا في تدني أخلاق المجتمع هو الجهل وعدم التعلم وطلب العلم النافع. وأقصد بالعلم هنا ليس أن يكون المرء متقنا للكتابة أو عارفا ببعض الفنون، لا، إنما الجهل هنا جهل لب العلم وجهل العمل به. وليس المتعلم هو من حارب أميته وخرج من جهل المعلومات، بل الجهل هو أن لا يدرك المرء مغزى الأمور وحقائقها والغرض منها وكيفية امتثالها في حياته. والجهل بهذا المعنى هو الذي عناه الله تعالى في كثير من الآيات واصفا المعرضين عن الحق، قال تعالى: "وأعرض عن الجاهلين" وقال أيضا: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"...الخ فالجاهل بهذا المعنى قد يكون من أعلم أهل الأرض من حيث المعرفة ولكن علمه لم ينفعه في إتباع الحق فأصبح جاهلا من الخاسرين. أقول هذا الكلام لأن مجتمعنا -في كثير من النواحي- لا يشكوا من الأمية أكثر مما يشكوا من الجهل. بل نعرف أناسا لا يحسنون الكتابة ولكن لهم حظ كبير من الحكمة والعلم النافع. إن أي مسلم غيور على مجتمعه وأراد أن يصلح ما فسد فيه لا بد أن يبحث عن بداية المشكل. ويطرح سؤالا: متى بدأت الأخلاق السيئة تتفشى في مجتمعنا المسلم؟ كيف تأتى لهذه الأخلاق الرذيلة أن تلج إلى عقر دار أمة هي حاملة مشعل القيم:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله"؟؟ للإجابة عن هذا السؤال الجوهري في هذا الموضوع ينبغي أن أن نرجع إلى البدايات. وفي البدء كنا –نحن المجتمع المسلم- الكل كان متعلما وعالما. هذه حقيقة لا مفر منها، شئنا أم أبينا فإن أزهى عصورنا في جميع المجالات هو الماضي، لقد كنا النماذج في كل شيء: في ميادين الدين والدنيا، ولم نكن نفصل بين الدين والدنيا حتى دخلتنا التفرقة بين العالمين من الغرب. أقول هذا الكلام لأن بعض المنهزمين والمستغربين يسقطون في أحكام جاهزة أقل ما يقال عنها أنها جائرة، فيدعون أن المسلمين ما عاشوا الازدهار ولا الحضارة ولا التمدن إلا للحظات، وهذه الدعوة قديمة قد تخطاها الزمن، والذي لا زال يرددها فإنما يغرد خارج السرب. وقد تبين أن مبدأ هذه الدعوى من المستشرقين قصد زرع روح الانهزام في المسلمين حتى يسهل عليهم استلابهم حضاريا. ويكفي في إبطال هذه الدعوى الواقع والتاريخ، وأن العدو قد شهد ببطلانها قبل الصديق. لقد كان مجتمعنا في الماضي وإلى أواخر قرون الانحطاط –مع تحفظ على هذا المصطلح غير الدقيق– وأقصد ببداية الانحطاط بداية أفول نجم المسلمين عن الساحة العالمية، ويمكن التأريخ له بنهاية القرن الخامس عشر الميلادي، بداية من 1492 سنة سقوط غرناطة (القرن التاسع الهجري). قلت كان مجتمعنا -قبل هذا التاريخ عموما- متعلما وعالما بمعنى الكلمة. ولو أردت سرد الشواهد لما استطعت الحصر. لقد كان العلم والتعلم نمطا للعيش، وعادة وعرفا. والقيم عندما تصبح عادة فإنها تكون أكثر تأثيرا؛ لأن العادة محترمة عند جميع المجتمعات، حتى إننا نجد الشرع اعتبر العرف وجعله من مصادر التشريع. ولن أتكلم عن نبوغ العلماء وتفقههم والتزامهم الآداب والأخلاق وتمثلهم كل ذلك في حياتهم، فهذا معلوم من التاريخ بالضرورة، إنما العجيب أن نجد المرأة قد أسهمت بالحظ الوافر في بناء هذا المجتمع: مجتمع العلم والأخلاق. وهنا مربط الفرس: "المرأة". المرأة مدرسة، إن علمتها حصلت على ثمار يانعة وطيبة الأعراق. بل المرأة هي قطب الرحى في تشكل الأخلاق الحسنة وفي اندثارها. ومقياس أخلاق الأمم هو المرأة؛ لأن الطفل إذا لم يرضع الأخلاق وحب العلم والعمل من ثدي الأم لن تستطيع أي مدرسة أو أي مؤسسة أو أي تنظيم أن يخلّقه إلا بشق الأنفس. وأقولها بدون مبالغة: المرأة هي مقياس التحضر ومقياس التخلف. ونحن نعلم كم للأم من تأثير على شخصية الطفل، ولسنا بحاجة لتأكيد هذا. ولننظر الآن إلى واقع المرأة في مجتمعنا من حيث التعليم والتربية وإلى واقعنا في الماضي، لندرك الفرق الساحق، ولنلمس بعض الدواء لهذا الجرح العميق: فساد الأخلاق. إذا رجعنا إلى ماضينا -وهو ماض مشرق في عالم الأخلاق- رغم ما شابه من قصور ونقص ورذائل أحيانا لا يمكن إنكارها، وجدنا المرأة تزاحم الرجل في طلب العلم والتعليم والعمل، وتنافسه في التزام القيم والمثل العليا. فهذا تلميذ سعيد بن المسيب –في قصة طويلة مشهورة– يتزوج من بنت شيخه بأمر من شيخه، وفي الصباح عندما أراد الالتحاق بمجلس شيخه في المسجد لطلب العلم قالت له زوجته: "مكانك، إن كنت تريد علم سعيد فاجلس أعلمك إياه" فجلس يستمع إليها فوجد عندها علم أبيها سعيد بن المسيب. وهذا شيخ المحدثين وشيخ الحفاظ في العلم والحديث الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب "الصحيح" الذي ليس على وجه الأديم كتاب بعد كتاب الله تعالى أصح منه، من بين شيوخه امرأة. بل ويكفينا شاهدا على تعلم المرأة وإسهامها في الحياة أن من أكثر الصحابة رواية للحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ولو حذفنا مرويات عائشة من كتب السنة لضاعت السنة والشريعة. ويروي أحد النحاة أنه دخل بغداد مرة فمر بإحدى زقق المدينة وأثار انتباهه نقاش دائر بين مجموعة من النسوة من على سطوح منازلهم كنّ يقمن بأعمال منازلهن ويتناقشن في موضوع "الاستثناء" في علم النحو: (الاستثناء المنفصل والمتصل والمفرغ...) فتعجب كيف لهؤلاء ربات البيوت يُجدن الكلام والفهم في موضوع يستعصي حتى على المتخصصين. ونجد أيضا المرأة قد أسهمت في تطور العلم الدقيق، فهذه مريم الإسطرلابية الأندلسية تُخرج للناس أدق الإسطرلابات في زمانها حتى اشتهرت به في العالم كله. هذه بعض النماذج التي حضرتني الساعة، ولا أروم الحصر، والكثير منها تعج به كتب التراجم. والعجيب في الأمر أن المرأة لم تكن تتقلد المناصب كما كان الرجال حينها يتقلد مناصب الفقه والإفتاء والتدريس بالمدارس النّظامية... حتى نقول إنها كانت تطلب العلم من أجل العمل، أبدا، بل كانت المرأة تتعلم من أجل العلم، وهذا هو الأصل في التعلم. ولما صرنا نطلب العلم من أجل العمل ضاع العلم وضلع العمل معا جميعا. ونجد معظم هؤلاء النساء تعلّمن في بيوت آبائهن وأزواجهن أو في المساجد. فتصوروا معي -أيها الإخوة- أسرة تنشأ في بيت، ربة المنزل فيه عالمة بل وعاملة كيف يكون النشأ؟ وكيف ينمو الطفل الذي هو رجل المستقبل. وفي الختام أختصر الكلام بالقول: إن أهم سبب في انحطاط الأخلاق هو غياب العلم النافع عن بيوتنا، وأهم من يُسهم في هذا العلم هي المرأة. وتركيزي على المرأة لا يُخرج الرجل من العملية، أبدا، فأنا لست ممن يؤمن بثنائية الرجل/والمرأة، بل كلاهما متوقف على الآخر في إعمار الأرض، بل الرجل أكثر مسؤولية من المرأة، ولكن المرأة أكثر تأثير في التربية والأخلاق من الرجل. بل تعلم المرأة أهم من تعلم الرجل، ولو طُلب مني –ضرورة- أن أختار بين أن تتعلم المرأة أو أن يتعلم الرجل لفضلت تعلم المرأة؛ لأن المرأة إذا تعلمت بالضرورة سيتعلم أبناؤها. فعلى الرجل أن يجتهد بكل ما أوتي من قوة في تعليم المرأة، حتى يتسنى لها أن تؤدي وظيفتها الأولى وعملها الأصلي وهو تربية النشء على مكارم الأخلاق. هذا بإجمال أهم عوامل انحطاط الأخلاق إجمالا وهو غياب التعلم والعلم النافع المفضي إلى التخلق. والتفصيل في هذا الموضوع يقتضي التطويل، وللحديث بقية إن يسر الله في ذلك.