هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي المشهور بابن البنّاء المالكي، أشهر عالم رياضيات مغربي على الإطلاق؛ برز بصفة خاصة في الرياضيات والفلك والطب. ولد سنة 654ه (1256م) بمراكش، وكان أبوه بنّاء، وقضى أغلب فترات حياته بمراكش، وتوفي بها سنة 724ه (1321م)، وهو معاصر للدولة المرينية.. درس ابن البنّا بمراكش النحو والفقه والحديث، ثم انتقل إلى فاس ودرس الطب والفلك والرياضيات. وكان من أبرز أساتذته ابن مخلوف السجلماسي الفلكي، وابن حجلة الرياضي، وأبو عمران الزناتي والقاضي أبى الحسين المقبلي وأبي بكر القلاوسي، وأخذ عنه جماعة منهم محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحاج، وأبو جعفر بن صفوان، وأبو زيد عبد الرحمن البجائي.. وقد حظي ابن البنّا بتقدير ملوك الدولة المرينية في المغرب الذين استقدموه إلى فاس مراراً.. ودرّس الرياضيات وعلم الفلك التطبيقي في مدرسة العطارين بفاس، قبل أن يستقر به المقام نهائيا بحاضرة مراكش. وقد خصّه أحمد بابا السوداني في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" بترجمة مطولة مفيدة، وترجمه كذلك محمد مخلوف في شجرة النور الزكية.. لقد أسس ابن البنا المراكشي مدرسة علمية مهمة في المغرب، أكبّت على مدى قرون على تدريس مؤلفاته وشرحها وتداولها في مختلف جامعات العالم.. وإلى جانب مساهمات ابن البنّا العلمية الرائدة في مجال علم الحساب، نجده قد ألف مؤلفات في مختلف العلوم، مثل الدراسات القرآنية، وأصول الدين، والمنطق، والبلاغة والتصوف... وينسب إلى العلامة ابن البنا أزيد من مائة كتاب منها ثلاثون كتابا مكرسة للرياضيات وعلم الفلك، وقد حُفظ جزء من هذه الأعمال ونشر بعضها وترجم.. إن الوضع الاعتباري لابن البنا في تاريخ العلوم العربية الإسلامية هو وضع رائد ومتميز، فقد أبقت المدرسة التي وضع أسسها على النشاط العلمي وهّاجا في الغرب الإسلامي خلال عدة قرون، من خلال تحرير شروح متعددة لأعماله في علم الحساب. وبالفعل، فالعديد من العلماء ركزوا اهتمامهم على كتابه المدرسي المكثف "تلخيص أعمال الحساب"، من ذلك "منية الحُسّاب" للعلامة ابن غازي المكناسي التي اشتملت على ما جاء في "تلخيص أعمال الحساب" لابن البنّا المراكشي، وسيقوم العلامة الكبير ابن غازي المكناسي في وقت لاحق بشرح "مُنية الحُسّاب" في كتاب سماه "بُغية الطُّلاب في شرح مُنية الحُسّاب" (نشر بمعهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب بسوريا (1983)).. ويظهر تأثير ابن البنا الكبير في أعمال العلامة ابن غازي المتعلقة بعلم الحساب بما يمثل استمرارية علمية أصيلة تبرز الديناميكية الفكرية التي سادت بلادنا بكل الأبعاد العلمية والتربوية التي تنطوي عليها، تحقيقا لسيادة العلم والمعرفة في حياة الناس، وهذه مسألة لم نعد في حاجة إلى التأكيد عليها مادامت القرائن المادية في الكتب والعمران تبرز الدور الكبير الذي لعبه العلم والتعليم في بناء الكيان الحضاري والثقافي لبلاد المغرب.. كتب ابن البنّا مؤلفات أخرى عديدة في علم الفلك، أهمها "منهاج الطالب في تعديل الكواكب"، وهو كتاب تطبيقي لحساب الروزنامات الفلكية، ضمّنه قوائم مفصلة، وقد حقق المستشرق الإسباني فيرنه خينس مقدمة الكتاب وبعض فصوله وترجمها إلى الإسبانية سنة 1952. كما ألف ابن البنّا نصا حول الأسطرلاب بعنوان "الصفيحة الشكزية"، وهو أسطرلاب واسع الاستعمال يمكن استخدامه لحل كل مسائل علم الفلك الكروي بالنسبة لكل خطوط العرض.. للعلامة ابن البنا مؤلفات أخرى في علم الأصول منها: منتهى السول في علم الأصول، وشرح على تنقيح الفصول للقرافي، و معلوم أن الشارح ابن البنا كان معاصرا للشهاب القرافي.. وعلى الرغم من انتمائه المالكي فقد انفتح ابن البنا المراكشي على مذاهب فقهية أخرى، من ذلك شرحه الشهير ل "مختصر الخرقي" للإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي المتوفي سنة (334ه)، وهذا المتن من أول ما ألفه علماء الحنابلة في الفقه.. ولابن البنا حاشية على "كشّاف الزمخشري"، وله الكلّيات في علم المنطق ثم شرحها، ومؤلف في الجدل، ومنهاج الطالب في تعديل الكواكب، وله كتاب المقصد الأسنى في شرح كتاب اليسارة في تعديل السيارة، ذكره الزّركلي في الجزء الأول من الأعلام. وفي علوم القرآن ألف ابن البنا كتابا هو: "عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل" وهو كتاب نفيس في تبيان معاني الألفاظ المؤدي إلى حسن التدبر، قال في مقدمته: "وبعد فإنه لما كان خط المصحف الذي هو الإمام الذي يعتمده القارئ في الوقف والتمام ولا يعدو رسومه ولا يتجاوز مرسومه قد خالف خط الأنام في كثير من الحروف والأعلام. ولم يكن ذلك منهم كيف اتفق، بل على أمر عندهم قد تحقق، بحثت عن وجوه ذلك بمقتضى الميزان ووافي الرجحان ووقفت منه على عجائب ورأيت منه غرائب جمعت منها في هذا الجزء ما تيسر عبرة لمن يتذكر وسمّيته: عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل، هو لأولي الألباب مفتاح تدبر الكتاب بحول الله تعالى وقوته".. من إسهامات ابن البناء في الحساب أنه أوضح النظريات الصعبة والقواعد المستعصية، وقام ببحوث مستفيضة عن الكسور، ووضع قواعد لجمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأين لحل معادلات الدرجة الأولى، والأعمال الحسابية. وأدخل بعض التعديل على الطريقة المعروفة "بطريقة الخطأ الواحد" ووضع ذلك على قواعد منهجية ترقى إلى مستوى القانون. وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن ابن البنّا قد تفوق على من سبقه من علماء الرياضيات العرب وخاصة في حساب الكسور، كما عُدَّ من أهم الذين استعملوا الأرقام الهندية في صورتها المستعملة عند المغاربة.. أما عن "كتاب تلخيص أعمال الحساب" فيقرر كل من Smith و Sarton -وهما من أبرز دارسي تاريخ الرياضيات في العالم- بأنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب. وقد ظلت الجامعات الغربية تعمل به إلى نهاية القرن السادس عشر للميلاد، وكتب كثير من علماء العرب شروحاً له، واقتبس منه العلماء في الجامعات الغربية، كما اهتم به علماء القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد ترجم إلى الفرنسية عام 1864م على يد العالم Marre، ونشرت ترجمته في روما. وقد أعاد ترجمته إلى الفرنسية الدكتور محمد سويسي، ثم نشر النص والترجمة مع تقديم وتحقيق سنة 1969. لاشك إذن أن مجال التفوق بالنسبة للعلامة ابن البنا المراكشي هو ميدان الحساب والفلك، يشهد على ذلك مؤلفاته العديدة والمؤسّسة منها: "مقالات في الحساب"، وهو بحث في الأعداد الصحيحة، والكسور، والجذور، والتناسب؛ و "رسالة في المساحات" و "كتاب الإسطرلاب واستعماله" و"كتاب الجبر والمقابلة" و"كتاب الفصول في الفرائض"؛ و"كتاب اليسارة في تقويم الكواكب السيارة"؛ و منهاج الطالب في تعديل الكواكب، و"كتاب أحكام النجوم" حسبما ورد في كتاب "بُناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية" و"ملامح من سِيَر علماء مسلمين من عصور مختلفة" لحليمة الغراري... لقد اكسبَ ابن البنا المراكشي اشتغالُه بالرياضيات شهرة عظيمة بين معاصريه، فنال الحظوة في بلاط دولة بني مرين في فاس فكانوا يستدعونه كأستاذ كرسي لإلقاء دروس الحساب والهندسة والجبر، معتمدا في ذلك بالأساس على الجوانب التطبيقية والعملية التي تحوِّل الحساب إلى منهج في الحياة والعمران.. من إسهامات ابن البناء الحاسمة في الحساب أنه أوضح النظريات الصعبة والقواعد المستعصية، فيما يعني عملا منهجيا ديتاكتيكيا لتقريب الحساب من أذهان الطلاب، وإبراز الجوانب العملية والتطبيقية المترتبة عنه.. يبرز الأستاذ محمد أبلاغ في دراسته القيمة: (طبيعة الفكر الرياضي الذي طوره الرياضيون المغاربة في القرن 14م- في: ندوة العلوم في المجتمعات الإسلامية: مقاربة تاريخية وآفاق مستقبلية - الرباط: 2004) أنه في العقد الأخير من القرن 13 م كتب ابن البنّا المراكشي كتابا سماه "تلخيص أعمال الحساب" تناول فيه المواضيع التالية: الباب الأول خصصه للمبادئ العامة لعلم العدد، فباب الجمع الذي تناول فيه عملية الجمع البسيطة، ثم المتتاليات العددية والهندسية، ثم باب الطرح وامتحان صحة العمليات الحسابية بالطرح، أما باب الضرب فقد ميز فيه ابن البنّا بين الضرب بالتنقيل وهو الذي يتم فيه محو عمليات الضرب الانتقالية، والذي يشبه عملية الضرب الحالية في الوضع، ثم هناك ضرب يعرف بالقائم يكون فيه المضروب والمضروب فيه متقابلان، ضرب آخر يسمى نصف تنقيل يكون بين العددين المتماثلين، ثم الضرب بغير تنقيل: ينقسم إلى عدة أنواع منها الضرب بالجدول، والضرب بالقائم والضرب بالنائم، والضرب بالتضعيف، ومنها الضرب بالنيف، ثم الضرب بالتسمية، ثم الضرب بالتسعات في التسعات، ثم ضرب التسعات في أعداد أخرى كيفما كانت، ثم نوعين من الضرب بالتربيع. أما القسمة فهي باب قائم بكامله على النسبة، حيث "يراد بالقسمة نسبة أحد العددين من الآخر" حسب تعبير ابن البنا نفسه، وهناك القسمة بالمحاصات. وباب القسمة بطبيعة الحال يؤدي بنا إلى باب الكسور، حيث أن القسمة هي نسبة أحد العددين من الآخر، بينما الكسور هي نفسها النسبة ولكن عندما تكون بين أجزاء الأعداد. أما الأبواب الأخرى فتتعلق بالجذور، هناك أخذ جذر العدد الصحيح وجذر الكسور، ثم نفس العمليات الحسابية على الأعداد الصحيحة والكسور نجدها على الجذور من جمع وطرح وضرب وقسمة. أما الجزء الثاني من الكتاب فيسميه ابن البنا: في القوانين التي يمكن الوصول بها إلى المجهول المطلوب من المعلوم المفروض". "تلخيص أعمال الحساب" وينقسم هذا الجزء إلى قسمين: حيث يتناول الأول أنواع النسبة التي ترجع كلها حسب ابن البنا إلى الأربعة أعداد المتناسبة، ثم العمل بالكفات أو حساب الخطأين حسب التعبير المشرقي، ويتعلق الباب الأخير بالجبر والمقابلة، حيث نجد المعادلات من الدرجتين الأولى والثانية والعمليات الحسابية المتعلقة بالجبر من جمع وطرح وضرب وقسمة (محمد أبلاغ، مرجع سابق). يقول العلامة ابن خلدون في المقدمة عن علوم الرياضيات في عصره: "ومن أحسن التآليف المبسوطة فيه لهذا العهد كتاب الحصّار الصغير، ولابن البنّا المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه "رفع الحجاب" وهو مستغلق على المبتدئ لما فيه من البراهين الوثيقة المباني، وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تُعظّمه وهو كتاب جدير بذلك. وساق المؤلف رحمه الله تعالى كتاب فقه الحساب لابن منعم والكامل للأحدب ولخص براهينهما وغيرها من اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة وهي سر العبارة وزبدا وكلها مستغلقة. وإنما جاءها الاستغلاق من طريق البرهان شأن علوم التعاليم؛ لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها، وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله والله يهدي من يشاء." وكتاب "رفع الحجاب" هو الشرح الذي وضعه ابن البنّا نفسه ل"التلخيص". وفي هذا البحث تحديدا أدخل علامات رياضية دفعت بعض المؤرخين المحدثين إلى تأكيد أن الرمزية الجبرية قد تطورت في بلاد الإسلام على يد ابن البنّا المراكشي. وعلاوة على هذا، تظهر عدة أفكار رياضية هامة ونتائج أخرى مختلفة في "رفع الحجاب". ولبيان ذلك، فإن الكتاب يحتوي على كسور متصلة، وهي تستعمل في حساب الجذور المربعة التقريبية، وترتبط نتائج أخرى هامة بجمع المتسلسلات وبمعاملات المخارج ذات الحدين. ويطرح الأستاذ محمد أبلاغ –في مقاله السابق الذكر- سؤالا مفتاحيا هو: لماذا سيفرض هذا الكتاب (تلخيص أعمال الحساب) نفسه بحجمه الصغير جدا وبمادته الرياضية القليلة، ولماذا هيمن على التدريس والتأليف الرياضي طيلة 7 قرون أي من القرن 14 م إلى القرن 20 م؟ أين تكمن أهمية هذا السؤال؟ تكمن أولا في طرحه، حيث أنه يقطع مع الكيفية التي يتم التعامل بها مع المادة الرياضية الموروثة من الماضي؛ لأن المهم يصبح عندما نطرح هذا السؤال ليس هو البحث عن الأصالة في المجال الرياضي، بل أساسا القيمة الثقافية للرياضيات، أي يتحول العلم إلى ظاهرة اجتماعية يتفاعل مع محيطه، ذلك أن البحث العلمي لم يكن في يوم من الأيام اعتباطيا، وإنما كان محكوما بشروط اجتماعية محددة. وواصلت النهضة الأوروبية والثورة العلمية الحديثة هذا التطابق الصارم بين التاريخ من جهة والعلم من جهة ثانية.. لماذا سيطر تلخيص أعمال الحساب على تعليم الرياضيات وطمس نجاحه للأسف الأعمال الرياضية الأندلسية الضخمة للقرون السابقة؟.. بعض ملامح الإجابة على هذا السؤال –حسب الأستاذ محمد أبلاغ- توجد في كتاب لاحق ألفه ابن البنّا بعد" تلخيص أعمال الحساب" وهو "رفع الحجاب عن وجوه أعمال الحساب"، وهو كتاب شارح ليس بالمفهوم التقليدي للكلمة أي ليس بمفهوم تبسيط المادة الرياضية الموجودة في التلخيص، بل هو كتاب في شرح أسباب تأليفه لهذا الكتاب، وهنا تكمن أهميته. ففي تلخيص أعمال الحساب نجد في باب الجمع كيفية وضع العمليات البسيطة ثم قواعد المتتاليات العددية على الأعداد الصحيحة ومربعا ومكعبا، ثم المتتاليات الهندسية عندما يكون الطرف الأول، ثم المربعات والمكعبات... كيف سيتعامل ابن البنا مع هذا الباب في رفع الحجاب عن وجوه أعمال الحساب؟ أولا: هناك التمييز المنطقي بين طبيعة المتتاليات الهندسية والعددية، من حيث أن الأولى تخضع للتناسب الكيفي والثانية تخضع للتناسب الكمي، ما يجمعها معا هو خضوعهما للتناسب؛ ثانيا: هناك التمديد، أي الفائدة النظرية من المتتاليات العددية والهندسية، وهي هنا تمكننا من إيجاد الأعداد التامة والناقصة والزائدة؛ ثالثا: التطبيق العملي، وهنا يضع ابن البنّا مسألة الأوزان كنموذج للتطبيق العملي للمتتاليات الهندسية. إذن ابن البنّا واضح تمام الوضوح هنا: باب الجمع هو أصل نظرية الأعداد، وباب الضرب هو أصل باب النسبة والتناسب، وهو كما يوضح ذلك يفضل باب الضرب نظرا لكونه ينسجم مع تصوره للرياضيات كوسيلة لحل مشكلات المدينة الإسلامية، -تأمل كيف يرى ابن البنّا إتقان الرياضيات كمدخل لحل مشكلات العمران، هذه هي روح الحضارة بامتياز- وبذلك أيضا في باب النسبة من كتاب تلخيص أعمال الحساب ركز على الأربعة أعداد المتناسبة؛ لأنها أصل جميع النِّسب، ومن تمكن منها يكون قد ملك زبدة علم الحساب –تأمل منهج ابن البنا في تلقين الحساب-، أو كما يقول هو نفسه: "ومن أحاط علما بها فقد علم ملاك علم الحساب وأصله، وسنبين كيف ترجع كل نسبة منها إليها، فهي القاعدة العظيمة المنفعة في الحساب وفي غيره. إذن التناسب -حسب ابن البنا- هو القاعدة العظيمة في الحساب وفي غيره كذلك. ولقد أكد ابن البنّا بقوة على فكرة التناسب، ليس فقط في كتبه الرياضية، بل كذلك في كتبه المنطقية، حيث يقول في كتابه "شرح الكليات في المنطق": "العالم إنما هو نسبة في علم الله سبحانه، غير مجعولة بجعل جاعل؛ لأن علم الله قديم، ثم عرض للعالم ظهور بعضه لبعض، وهو المعبر عنه بالحياة الدنيا، وهذه مرتبة زائلة بمرتبة البرزخ، وتلك زائلة بمرتبة الحياة الآخرة. فالعالم لم ينتقل في المراتب الزائلة، إذ لا ثبوت لها إلا به، وإن كان هو يزول عنها إذا زالت عنه. وكل واحد يجد من نفسه أنه هو الذي كان صغيرا وكبر، وأنه الذي كان نائما واستيقظ، وأنه الذي كان جاهلا وعلم، وغير ذلك من المراتب الزائلة التي هو فيها ثابت". مع ابن البنّا هناك إذن انتقال من مفهوم الضرورة الطبيعية إلى مفهوم النسبة الرياضية، حيث أن التناسب يمر إلى ما لانهاية والمهم هو ثبات النسبة، هذه النسبة التي يمكن أن تكون جلية ظاهرة أو خفية تحتاج إلى إخراجها من المجهول إلى المعلوم. وبذلك يحتاج العقل إلى ضوابط للانتقال من المعلومات إلى المجهولات، وهي كما نعرف القواعد التي يقوم عليها التناسب الرياضي وعلم الجبر والمقابلة. (محمد أبلاغ: طبيعة الفكر الرياضي الذي طوره الرياضيون المغاربة في القرن 14م- في: ندوة العلوم في المجتمعات الإسلامية: مقاربة تاريخية وآفاق مستقبلية - الرباط: 2004).. من بين الكتابات المفيدة التي تناولت شخصية ابن البنا المراكشي: دراسة الباحث رونو، تقويم ابن البنا المراكشي (باريس، 1948)، ودراسات ج . قيرني: مساهمة في دراسة عمل ابن البنا الفلكي (تطوان، 1951)، و"ابن البنا" في "معجم البيوغرفيا العلمية" (المجلد 1، نيويورك، 1970)؛ ابن البنا، نصوص ودراسات (منشورات ف. سيزغين، فرانكفورت، 1998)، والدراسة القيمة لمحمد أبلّاغ: (رفع الحجاب ووجوه أعمال الحساب لابن بنا المراكشي" منشورات كلية الآداب ظهر المهراز، فاس-1994) والدراسة القيمة لكل من أحمد جبار ومحمد أبلاغ، "حياة ومؤلفات ابن البنا" (منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2001).. إننا إزاء عالم متمرس كان يرى في علمه وسيلة لفهم العالم من حوله وللبحث عن المعنى في الموجودات، ولاستكناه أسرار الطبيعة، وتحويل المجهول إلى معلوم، ولا يخفى على ذوي النباهة أن قمّة التفكير العلمي هي القدرة على "تبسيط" معطيات الطبيعة إلى "قواعد رياضية" تقرب المقاصد وتقصر المسافات وتنظم التفكير.. رحم الله العلامة ابن البنا المراكشي والله الموفق للخير والمعين عليه