قال الله تقدست أسماؤه "اَفلم يسيروا في الاَرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو اذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الاَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" [سورة الحج/ الآية: 44] قلوبنا –أيها الإخوة الكرام- هي محل نظر الله -جل وعلا- "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم"، إن شرف الإنسان ومزيته في استعداده لمعرفة الله التي يتلقاها بقلبه لا بجارحة من جوارحه، وعلى قدر ما فيه من صدق وطهر وخير يكون العطاء الإلهي... فالعبرة بالقلب وبما فيه.. القلب هو العالم بالله، والمتقرب إلى الله، والساعي والمنيب والمخلص.. هو المحظوظ إذا سلم من غير الله، والمحجوب إذا شغل بغير الله.. القلب هو المخاطب، والمطالب، والمعاتب، والقاسي، واللين، والعارف، والمنكر، والوجل، والمخبت، والمطمئن، هو الذي يسعد بالقرب، ويشقى بالبعد، هو المطيع و العاصي.. القلب إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، ومن لم يعرف قلبه معرفة- ترقى بحاله وترفع من شأنه- فهو ممن: "نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" [سورة الحشر/ الآية: 19]. قد يقال إن في هذا الكلام مبالغة وتهويلا، ويحمل هذا العضو أكثر مما يحتمل.. وأجيب بأنها الحقيقة التي تقررها كثير من الدلائل الشرعية.. نعم، القلب هو جوهر الإنسان، ومحل الإيمان، ومركز الإدراك والفهم، ومستودع المشاعر والعواطف، قال الله جل شأنه : "إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم" [سورة الأنفال/ الآية: 71]. وقال: "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما" [سورة النساء/ الآية: 35]. وقال: "فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا" [سورة الفتح/ الآية: 18]. وقال: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"؛ فوسيلة تدبر القرآن وفهمه: القلوب الطاهرة الواعية، والعبرة بالسرائر وما فيها، ولذلك يقول: "أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم" [سورة النساء/ الآية: 62]. والجزاء من جنس العمل: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا" [سورة البقرة/ الآية: 9]، وكثيرا ما يؤكد القرآن أهمية ما في القلوب، وأن العطاء والمنع إنما مداره على هذا القانون: "واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" [سورة البقرة/ الآية: 233]. وقال: "ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو اَسمعهم لتولوا وهم معرضون" [سورة الأنفال/ الآية: 23]. والقلب -كذلك في القرآن- مركز المشاعر، يلين ويقسو، ويتكدر ويصفو، قال تعالى: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة" [سورة الحديد/ الآية: 26]. وقال: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو اَشد قسوة" [سورة البقرة/ الآية: 73]. قيل لإبراهيم بن أدهم ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا وقد قال رب العالمين: "ادعوني أستجب لكم".فقال: لأن قلوبكم ميتة، قيل وما الذي أماتها؟ قال ثمان خصال: عرفتم الله ولم تقوموا بحقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده، وقلتم نحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تتبعوه، وقلتم نخشى الموت ولم تستعدوا له، وقلتم الشيطان عدونا وعدو الله ولكن ما لبثتم أن واطأتموه على المعاصي، وقلتم نخاف النار وأرهقتم أبدانكم فيها، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها، وإذا قمتم من فرشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم وافترشتم عيوب الناس أمامكم فأسخطتم ربكم، فأنى يستجاب لكم؟ يولد القلب على الفطرة الخالصة، ولكن لا تلبث الشهوات، وميول النفس، ومصايد الشيطان، والصفات المهلكة أن تعطب فطرته، وتغير حاله من السلامة إلى المرض، ومن الشفوف إلى الخلط، ومن التفتح على الحكمة والمعرفة والنور إلى الختم والقفل والطبع، ومن البصيرة إلى العمى كما قال - جل وعلا- عن القلب الأعمى: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" [سورة الحج/ الآية: 44]. وقال عن القلب المختوم: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة" [سورة البقرة/ الآية: 6]. وقال عن القلب المريض: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا" [سورة البقرة/ الآية: 9]. وقال عن القلب المطبوع: "ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" [سورة الأعراف/ الآية: 99]. وقال عن القلب المحجوب: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" [سورة الأنفال/ الآية: 24]. وقال: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" [سورة المطففين/ الآية: 14]. وقال عن القلب الزائغ: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" [سورة آل عمران/ الآية: 8]. وفي ختام المطاف، لا ينفع المرء في الدار الآخرة إلا من أتى الله بقلب سليم، والقلب السليم هو القلب العارف المخلص السالم من شوائب صفات النفوس، ورعونات الاختلاط والاجتماع، هو القلب المتسامي المتبصر في أصول العلم والحكمة، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فدل الحديث على أن صلاح الجوارح ناتج عن صلاح القلب، وفسادها ناتج عن فساده.. والمراد بصلاح القلب: أن يكون مستعدا لما خلق له، وما خلق له هو المعرفة والفكرة، وأن يترقى في العلوم، وأن تتجلى فيه حقائق الأمور، ذلك أن العلم الذي يحصله الإنسان من العبر والحكم والجوانب المعنوية في الحياة، هو عين الزاد الذي تحيا به الروح، وتقوم به إنسانية الإنسان، ولذلك قال ابن عطاء الله: الفكرة سراج القلب إذا ذهبت فلا إضاءة له. وللحديث بقية، نسأل الله تعالى أن يجبر صدع قلوبنا بالإقبال عليه، وأن يمن علينا في كل حال بالدوام بين يديه، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، فلا تنقلب إلى سواك، ولا تتقلب إلاّ في منازل رضاك. اللهم طهرها من كل وصف يباعدنا عن مشاهدتك ومعرفتك ومحبتك آمين.