يحفل القرآن الكريم بالحديث عن السنن، ويوجه نظر القارئ له إلى شيء مهم جدا، وهو انضباط الأحداث التاريخية والاجتماعية بقوانين تشبه تلك التي تحكم الظواهر الطبيعية، وهي بذلك سنن ثابتة لا تتجلى إلا بالتأمل في حال الأمم والسير في الأرض واكتشاف المعالم التي توجه إليها، وفي هذا يأتي قوله سبحانه وتعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) [سورة النساء / الآية: 26]. وقوله عز وجل: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الاَرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)[سورة ال عمران/ الآية: 137]. وقد أشار الإمام محمد رشيد رضا في معرض تفسيره لهذه الآية إلى أن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم، لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه. فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وقد بينها العلماء بالتفصيل، عملا بإرشاده، كالتوحيد، والأصول، والفقه. والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها. وليس القصد من هذه الكلمة الموجزة إحصاء كل السنن القرآنية، لكن نشير إلى بعضها لبيان القصد: فمن سننه سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن شيوع الانحلال يدمر الأمم ويعجل بخرابها: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت اَيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) [سورة الروم/الآية:40]. ومن سننه أيضا أن المنكر إذا ظهر ولم يغير، وتداوله الناس وسكتوا عنه، نزلت نقمة الله بهم جميعا: الفاعلين لفعلهم، والساكتين لسكوتهم: (واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) [سورة الاَنفال/ الآية:25 ]. ومن سننه كذلك أن الحق منصور وإن طالت محنة أهله، وأن الباطل زهوق وإن استعلى وتجبر: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) [سورة الإسراء/الآية: 81]. ومن سننه عز وجل أن هذه الأمة لا تجتمع كلها على ضلالة، فلابد أن يكون هناك من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) [سورة الاعراف/ الآية: 181]. وقد أشار عدد من علماء السلف إلى أهمية السنن القرآنية والعلم بها في سير الأمم وقيامها، فكان منهم ابن سعد (230ه) في كتابه الطبقات، وابن مسكويه(421ه)، والبيروني( 440ه)، وابن حيان (469ه) الذي قدم تحليلا سياسيا لسقوط قرطبة، وابن خلدون الذي أصل في "مقدمته" لنظرية الدورة الحضارية وارتباطها بعلم السنن. ولو تأمل المسلمون تاريخ أمتهم مليا، لأدركوا أن عزتها ومجدها وسمو حضارتها كان مرتبطا بسنن قرآنية وقواعد وضوابط ربانية محددة لا تتخلف إلا بقدر ما يتخلفون هم عنها. فهي ثابتة مستقرة، فإذا ما اتبعوها وأخذوا بها تحقق لهم ما ينشدون، وإذا هم أهملوها وأغفلوها تقطعت بهم السبل وقصر دونهم الوصول إلى مبتغاهم، فيحق عليهم بذلك أن يتنحوا عن موقع الشهادة على الناس إلى موقع المشهود عليهم، ومن موقع الريادة إلى موقع التبعية كما أشار إلى ذلك الأستاذ عبد المجيد النجار وغيره من المفكرين المعاصرين. بل إنهم ينبهون على أن تحقق الشهادة على الناس تكليف عام للأمة الإسلامية مبني على معنى الاختيار الحر شأن سائر التكاليف، ومحكوم بسنن قرآنية في تحقيقه، فإذا اجتمع فيه الاختيار واتباع القوانين والسنن تحقق في الواقع، وإن تخلف أحدهما تخلف وقوعه. وقد فطن مجموعة من العلماء لقضية "السنن" القرآنية الربانية وأثرها في قيام الحضارات أو سقوطها، منهم الأستاذ أبو الأعلى المودودي الذي يرى أن الأمم تسقط بعوامل داخلية وأسباب ذاتية، وأن أية حضارة تنشأ تحمل فنائها في داخلها وذلك حين تتجاهل سنن الله فيها. كما اهتم بهذه المسألة أيضا الأستاذ مالك بن نبي الذي تبنى منهج ابن خلدون في التأصيل السنني لقيام الحضارات وأصولها، بيد أنه أضاف سنة «التغيير» التي نصت عليها بعض آيات القرآن الكريم كمقوم أساسي يجب إعطاؤه مزيدا من الاهتمام والاعتبار في هذا الإطار مثل قوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة اَنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم). [ سورة الانفال/ الآية: 4]. فهذه سنة القرآن الكريم في التغيير الذاتي، أما سنته في الإعداد الذاتي فتنص عليه الآية الكريمة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) [سورة الانفال/الآية: 61]. إن الفكر الإسلامي المعاصر لم يوف علم السنن القرآنية حقه، أو بعضا من حقه، وهكذا يتضح أنه مطالب بمزيد من البحث والدراسة في هذا الموضوع لفهم أعمق لنشوء الحضارات وأفولها، وإيجاد مكان مناسب له ضمن شمولية الرؤية الحضارية. وإن حال الأمة اليوم يستدعي مجهودات جماعية منظمة، وكفاءات علمية متخصصة لدراسة علم السنن كما نصت عليه الآيات القرآنية الكريمة وذلك باستقراء لطبيعة الحال والمآل للحضارة الإسلامية، والنظر في أصول الفكر الإسلامي ومنهجيته، فتجلي قضاياها ومجالاتها، وتقدم للناس الرؤية الحضارية التي تتحقق فيها الأصالة والمعاصرة في أبهى صورها وأجمل أشكالها، فيتحقق بذلك فينا قوله عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). [سورة البقرة/ الآية:142 ].