جرت يومي 20 و21 من شهر أكتوبر الجاري 2009 فعاليات الندوة العلمية التي نظمها المجلس الأعلى للتعليم في موضوع: "تدريس اللغات وتعلمها في منظومات التربية والتكوين: مقاربات تشخيصية واستشرافية"، وذلك بمشاركة باحثين وخبراء وأكاديميين من تونس، ولبنان، وفرنسا، وبلجيكا، وكندا والدولة المضيفة المغرب. وقد انتظمت أشغال الندوة في جلستين عامتين؛ الأولى حول: " تدريس اللغات وتعلمها في منظومات التربية والتكوين بالمغرب" وقد ترأسها الأستاذ أحمد عبادي بصفته رئيسا للجنة استراتيجيات وبرامج الإصلاح لدى المجلس الأعلى للتعليم، توزعت بدورها إلى محورين؛ أولهما حاول أن يقدم نظرة عامة عن تدريس اللغات وتعلمها بالمغرب من خلال مداخلة للأستاذ عبد الرحمان الرامي، وثانيهما حاولت الوقوف على النتائج الأساسية لأعمال الورشات المتخصصة حول تدريس اللغات وتعلمها. فبعد أن قدم الأستاذ أحمد عبادي إطار عمل ومنهجية اشتغال الورشات بوجه عام، تناول الكلمة كل من السادة الأستاذ سعيد بنكراد عن ورشة اللغة العربية، والأستاذ محمد البغدادي عن ورشة اللغة الأمازيغية، والأستاذ محمد الصالحي عن ورشات اللغات الأجنبية، والأستاذ عبد السلام الوزاني عن ورشة القضايا الأفقية.. أما الجلسة العامة الثانية التي سيرها الأستاذ محمد الذهبي، فقد انصبت حول تعليم اللغات في منظومات التربية والتكوين، الإستراتيجيات والتجارب الدولية، وأسهم فيها كل من الأساتذة أنطوان صياح بدراسة حول "تعليم اللغة العربية الفصحى: وضعها والبرامج المعتمدة في تدريسها، من خلال نموذجي كل من لبنان وتونس" ، وبيير مرتينيز (Pierre Martinez) بمداخلة بعنوان : "نظرة عن التعدد اللغوي في السياق الأوروبي: أية رهانات، بأية طرق، ولأية غاية؟" ومحمد الميلاد بدراسة حول موضوع: "إمكانيات مقترحة لملاءمة الإطار الأوروبي المرجعي للغات واستعماله ضمن السياق المغاربي"، وعبد الجليل العكاري بمداخلة في موضوع: "تدريس اللغات وتعلمها من خلال تجارب المنظومات التربوية ببلجيكا، كندا، اسبانيا وسويسرا" ، وبرونو مورير( Bruno Maurer) بمداخلة حاولت أن تقف على واقع "تدريس اللغات وتعلمها في المنظومات التربوية لبعض الدول الإفريقية: السينغال، مالي، النيجر، بوركينافاسو والبنين". أما الجلسة العامة الثالثة، التي سيرها الأستاذ محمد الساوري، فقد انصبت على موضوع: "اللغات في منظومات التربية والتكوين: التنوع اللغوي والتمكن من الكفايات اللغوية." استهلها فرانسوا غرين Francois GRIN بدراسة حول موضوع: "الإشكالية الراهنة لاقتصاد تدريس اللغات". تم أعقبته السيدة نورو أندرياميسيزا انكاروINGARAO Noro ANDRIAMISEZA بمداخلة حول "تدبير التعدد اللغوي في منظومات التربية والتكوين". وكذا السيد إريك فالاردو Eric FALARDEAU بمداخلة حول: "الكفايات الأساسية في تدريس اللغات وتعلمها: التمفصل بين التعلمات اللغوية وممارسات التلاميذ في المحادثة". والسيد لوران غاجو laurent GAJO بدراسة حول: "تعليم اللغات وتدريس المواد الأخرى باللغات الأجنبية في سياق متسم بالتعدد اللغوي". وأخيرا دراسة الأستاذ عبد السلام الشدادي بمداخلة حول موضوع: "وضعية اللغات بالمغرب وآفاقها." وفي الجلسة الختامية تم تقديم تقرير عام عن أشغال الندوة ونتائجها. بعد أن عرضنا لسائر المحاور والمداخلات التي تضمنتها فعاليات هذه الندوة العلمية، ننتقل إلى مناقشة أهم القضايا التي أثيرت فيها. فرغم أن موضوع هذه الندوة الهامة يكتسي طابعا بيداغوجيا وفنيا يتصل بمهارات وتقنيات التعلم والسبل الكفيلة بالارتقاء بمستوى القدرات والكفايات اللغوية لدى التلاميذ والطلبة وعموم الباحثين، إلا أنه طرح العديد من القضايا المرجعية والنظرية والثقافية والاجتماعية في صلتها بالسياق الحضاري العام للمغرب في تفاعله مع العالم. لقد عادت بنا الندوة إلى اللحظة التأسيسية للسياسة اللغوية بالمغرب الحديث، وهي السياسة التي جاءت محملة في ركاب الاستعمار الفرنسي؛ حيث فرضت الحماية اللغة الفرنسية في جميع الإدارات والمرافق العمومية وأرادت للغة العربية أن تظل حبيسة الأنشطة التقليدية. لدرجة أن جميع الكتب المدرسية كانت تعد خارج المغرب باستثناء مقررات التربية الإسلامية، وهو ما أثار ممانعة وطنية تمثلت في انتشار مؤسسات التعليم الحر الذي اعتمد اللغة العربية أداة أساسية للتعليم. ووعيا بضرورة استعادة مقومات السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة، فقد أصدرت اللجنة الملكية المكلفة بإصلاح التعليم توصية باعتماد التعريب سنة 1957. وفي سنة 1978 صدر قرار لمجلس الوزراء اعتبر أن خيار التعليم خيار وطني لا رجعة فيه.. غير أن هذا القرار واجه العديد من التحديات والممانعات بحيث لم يكتب له التنفيذ إلا سنة 1990 في ظل غياب استراتيجية واضحة ومنسجمة تحسم، على سبيل المثال، في نوعية التعريب المنشود هل هو تعريب فوري أم مرحلي؟ تعريب يعتمد الترجمة أم يقوم على التحويل؟..كما أن قرار التعريب لم يعمم على سائر الأسلاك التعليمية خاصة الجامعية منها، الأمر الذي أسهم في إجهاضه.... كما ذكرت الندوة أن التعددية اللغوية تعبر عن معطى تاريخي أصيل، وأن هذه التعددية كانت دوما مصدر غنى للشخصية الوطنية. غير أن هذه التعددية، مع خضوع المغرب لنير الاستعمارين الفرنسي والإسباني، واعتبار طنجة منطقة دولية، أمست تأخذ أبعادا سلبية متنامية تمس سيادة المغرب ووحدته التاريخية والحضارية، وكذا أمنه اللغوي.. وهكذا تم الانتقال من التعددية اللغوية إلى الازدواجية اللغوية، وأمسى التساؤل منصبا عن الوسائل الكفيلة بالارتقاء بهذه الازدواجية من ظاهرة شيزوفرينية/فصامية يراد فرض التعايش معها على المغاربة بحكم الأمر الواقع، إلى ظاهرة صحية تغتني بها اللغة والثقافة الوطنيتين..وكذا عن أنجع السبل لتدبير التعدد اللغوي ليغدو أداة لإغناء وتطوير اللغة العربية، وتعزيز الاستقرار والتماسك الاجتماعي.. وفي هذا السياق جرى التساؤل عن طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تنسج بين اللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية؛ بحيث تفضي إلى تقويتها ولا تؤدي إلى إفقارها وتجويفها.. فمع أن الندوة اعتبرت أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين شكل حدثا تاريخيا بفضل قيامه على إصلاح نسقي حدد الخيارات اللغوية في إطار من الإجماع الوطني..إلا أن ذلك لا ينفي ما تعانيه منظومتنا اللغوية من اختلالات بنيوية حقيقية تستوجب بلورة استراتيجية إصلاحية شاملة تعيد الاعتبار للغة العربية في مواجهة التوظيف المتنامي للدارجة ليس في الفضاء العمومي ووسائل الإعلام فحسب، وإنما في قاعة الدرس كذلك..وفي مواجهة التنامي الملفت للحيز الذي باتت تحتله اللغات الأجنبية ببلدنا.. فقد باتت الحاجة ماسة للتعجيل بالإعلان عن تأسيس أكاديمية محمد السادس للغة العربية كإطار أكاديمي لوضع الإستراتيجيات اللازمة للنهوض والارتقاء بواقع اللغة العربية.. ولأن اللغة، بوجه عام، ليست مجرد أداة للتواصل، وإنما تمثل للعالم، ومكون أساسي من مكونات هوية الأمة وذاتيتها الحضارية، وأداة حاسمة لنهضة الشعوب وتقدمها؛ بحيث لا يمكن لشعب أو أمة أن تنجز تقدما حقيقيا في مسيرتها الحضارية اتكاء كليا على لغة غيرها، فلا أمل للأمة العربية في النهوض والتقدم إلا من خلال الارتقاء باللغة العربية والاعتزاز بها، والحرص على جعلها لغة مستوعبة وحاملة للعلم والتكنولوجيا.. وذلك في انفتاح عقلاني على سائر اللغات الحية عبر تبني مشروع وطني للترجمة تسهر عليه لجان قطاعية متخصصة على درجة عالية من الأهلية في مجال تخصصها؛ بحيث تتم ترجمة كل ما له قيمة في شتى فروع المعرفة وفقا لسلم أولويات ينسجم مع طبيعة المشروع الإصلاحي الوطني الشامل الذي يتم التوافق عليه.. وتلافيا لتكرار الجهود في هذا الإطار يبدو من الضروري التنسيق والتكامل بين مختلف الدول العربية وفي إطار مؤسسات العمل العربي المشترك..