ومرت القرون وأتت توازنات عالمية جديدة، كالحروب والتجارة، أذابت الحواجز بين الشرق والغرب كما وقع خلال الحروب الصليبية التي تعد في الحقيقة، كما ذكر المؤرخون، امتدادا للحروب الأولى في سهول "اللْوار" و"اللوارين" بدولة الفرنجة، وبالأندلس التي كانت مسرحا لصراع البابوية مع الإسلام، حيث ذهبت هذه الحروب الصليبية إلى الشرق بالمحاربين ووسائل الحرب والدمار، ولكنها عادت متأثرة بألوان من مختلف الحضارات الإسلامية -العربية. وفي أوج هذا التبادل تلقى العالم الإسلامي عدة ضربات: ضربة الحروب الصليبية التي استمرت قرنين كاملين، وضربة المغول المدمرة التي قضت على الأخضر واليابس، ثم ضربة تيمورلنك وانهزام الأساطيل العثمانية. ولكن الغرب كان هو الفائز بمزايا التراث الحضاري العربي الإسلامي الذي احتفظ بكامل إشعاعه، وبنى على أساسه حضارته العملاقة لها روحها وذاتيتها، ولها إيجابياتها وسلبياتها. هذا ونترك لغيرنا من الباحثين الفضلاء البحث المعمق في التأثير المتبادل بين الأندلس والمغرب عبر التاريخ. فالكل يعلم أن الدول المرابطية والموحدية والمرينية، وصلت إلى الأندلس ودافعت عن كيانها وحضارتها ووحدتها وعقيدتها. وكان يرافقها علماؤها وأدباؤها وفقهاؤها، وكان على رأس هؤلاء عبد الرحمن بن خلدون العالم الموسوعي الذي خرج من رحم الحضارة العربية الإسلامية فشهد له علماء الأندلس، وخاصة منهم علماء اشبيلية وهو المنحدر من أصل اشبيلي تلك المدينة المشهور بالتسامح والتقارب بين المجتمعات المسيحية والإسلامية واليهودية، شهدوا له جميعا بسعة علمه، وبعد نظره وسداد بصيرته، وصواب رأيه في معالجة قضايا عصره السياسية والسلطوية والاجتماعية والفكرية. وهو عصر القرن الرابع عشر الميلادي الذي يعد من أكثر القرون التي عرفت كثيرا من التحولات والانتقالات وقيام وسقوط الإمبراطوريات… يتبع في العدد المقبل…