اتحاد الحكم واختلاف السبب وقد أجيب عن هذا الدليل بكون تقدير المحذوف أمرا ضروريا لتوقف فائدة الكلام عليه بخلاف المطلق والمقيد، فهما مستقلان في الدلالة ولا يتعين المصير إلى التقييد إلا عند اقتضاء الدليل له. قال الباقلاني مقررا هذا الجواب: "فأما تعلقهم بذكر الحذف والاختصار في كلامهم، فالفرق بينه وبين المطلق والمقيد أنه لو لم يحمل الثاني مما ذكر فيما وصفتم على معنى الأول ويرد إليه ويقدر الحذف فيه بطل الكلام وخرج عن أن يكون مقيدا، وإن قدر فيه الابتداء به صار منقطعا منبترا وابتداء لا خبر له، وإن قدر فيه معنى آخر غير الذي بدئ بذكره كان تعسفا وتركا لعادة الاستعمال؛ لأننا متى لم نقدر الحذف في قوله: "والانفس والثمرات" وأنه أراد نقص من الأنفس والثمرات، لم يكن الكلام مفيداّ؛ لأنه يتم عند قوله: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال"؛ فإذا قال بعد ذلك: والأنفس والثمرات ولم يرد الابتلاء بالنقص منهما، صار لذلك كلاما مبتدءا لا خبر له، وذلك باطل في الاستعمال. وكذلك متى لم يقدر في قوله: "والذاكرات الله" صار ذكرهن لغوا لا فائدة فيه، وكذلك القول في جميع ما ذكروه من الآي والشعر، وذلك واضح عند التأويل، فصار ما ذكرناه ضرورة ملجئة إلى حمل ثواني ما ذكر من هذا ونحوه على أوائله ورده إليه وتقدير المحذوف فيه، وإن حذف اختصارا وإيجازا. وليست هذه حال المطلق والمقيد،؛ لأن تقييد المقيد لا يلجئ إلى حمل المطلق عليه ولا يخرجه عن كونه مقيدا إذا حمل على إطلاقه والمقيد على تقييده، وكل واحد منهما كلام تام منفصل عن صاحبه ومستقل بنفسه لا تعلق لأحدهما بالآخر"[1]. واستند هذا الرأي أيضا إلى دليل آخر مقتضاه أن القرآن بمنزلة كلمة واحدة، حيث يتعين بناء بعضه على بعض ولو تباينت الأسباب، وذلك استدفاعا للتخالف بين النصوص الواردة في الأحكام المتماثلة، ف "إذا قيد الحكم في موضع تقيد أمثاله في غيره وإن تعلق بسبب مخالف له"[2]. وقد رد هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: أن التغاير والاختلاف في الأساليب القرآنية امر ثابت ولا يمكن رفعه: "فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة متباينة، لبعضها حكم التعلق والاختصاص، ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع، فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد، مع العلم بأن في كتاب الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة، فقد ادعى أمرا عظيما"[3]. الوجه الثاني: أن هذا القول "يوجب حمل ألفاظ العموم كلها على الخصوص لأنه قد خص بعضها، وحمل ألفاظ الأمر على الندب؛ لأن بعضها ورد على وجه الندب، ويوجب اعتقاد جميعها ناسخا لأن منها ناسخا، وجميعها منسوخا، لأن منها منسوخا، وهذا ظاهر البطلان"[4]. أما بخصوص القول الثالث الذي يمنع حمل المطلق على المقيد جملة، فإنه يتعين العمل بالمطلق في مورده وبالمقيد في مورده، وعليه يجب في كفارة القتل الخطأ إعتاق الرقبة المؤمنة عملا بالقيد، وفي كفارة الظهار يجب تحرير رقبة على وجه الإطلاق سواء كانت مؤمنة أو كافرة، إذ اختلاف السبب قد يكون هو المقتضي للإطلاق والتقييد، فالقتل الخطأ يقتضي تقييد الرقبة بالإيمان إظهارا لجسامة الجرم وتشديدا للعقوبة، بينما الظهار بخلافه، حيث يجزئ في كفارته إعتاق مطلق الرقاب دون تقييد[5] كما "أن الأصل التزام ما جاء به الشارع من دلالات ألفاظه على الأحكام، فكل نص حجة قائمة بذاتها، والتقييد بلا دليل عدول عن هذا الاعتبار، ولذلك فلا يلجأ إلى حمل المطلق على المقيد إلا عند التنافي بين الحكمين، بحيث يؤدي العمل بكل منهما إلى التناقض، وهذا مأمون فيما نحن فيه من اختلاف السبب، فالشارع في خطابه أوجب الرقبة على إطلاقها في موضع وأوجبها مقيدة بالإيمان في موضع، وليس في ذلك من تعارض، والعمل بكل من الحكمين ممكن بدون أي تناف"[6]. والله المستعان ————————– 1. التقريب والإرشاد، 3/314-315. 2. إحكام الفصول، ص: 194-195. 3. البرهان في أصول الفقه، إمام الحرمين الجويني، 1/290. 4. إحكام الفصول، ص: 195. 5. انظر المناهج الأصولية، فتحي الدريني، ص: 686. 6. تفسير النصوص، محمد أديب صالح، 2/221.