قال الله تقدست أسماؤه: "وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" [آل عمران، 141-140] كل أمر في هذا الكون لا يتم إلا بتدبيره جل شأنه، وفي كل أمر من تلك الأمور تحاط الوقائع بحكمته، ولا تخلو من لطفه ورحمته، ومن الحوادث المقدرة أن الله تعالى يرفع أقواما ويضع آخرين، وقد يكون أولائك الذين رفع شأنهم أنصارا للبغي متحيزين للباطل، وليس ذلك لأنهم أصحاب حظوة ومكانة لديه جل شأنه "والله لا يحب الظالمين"، ولكن لأنه لا بد أن تنفذ سنن الله تعالى في مخلوقاته؛ وتأملوا هذه الآية وهي قوله تعالى: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الاَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ" [آل عمران، 137] فللأمم سنن، وللمجتمعات قوانين وضعها الباري جلّ وعلا وهي كثيرة لا يأتي عليها عدّ في القرآن، ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل قوله تعالى "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً اَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [الاسراء، 16]. فدلت هذه الآية على أن الترف سبب خراب القرى، وسبب اختلال نظام الحق والعدل في المجتمعات… والآيات التي صدرت بها هذه المقالة نزلت بعد غزوة أحد، وقد كان النصر فيها للمؤمنين أول الأمر، ثم طرأت عوارض وأسباب حولت ميزان النصر، وغيرت اتجاه الغلبة لصالح العدو، وقد أوجز القرآن الحديث عن هذه العوارض والأسباب في جملة واحدة فقال: "حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الاَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ" [آل عمران، 152] بمعنى حين اعتراكم الفشل فجأة وهو الكسل والتراخي، والجبن، والتنازع والاختلاف والشقاق… وهكذا ترشد الآية إلى أن لله سُنناً اجتماعية تنطبق على جميع المجتمعات وأن هناك شروطا لا تتخلف "وتلك الاَيام نداولها بين الناس" وهذه الكلمات اليسيرة تشير إلى التاريخ الطويل الذي تركمه الأمم باجتهادها وسعيها وعملها حين تصل إلى سدة السيادة والذروة، ثم تطرأ عليها طوارئ القهقرى والأفول، فتضعف وتنحدر فإذا هي مستذلة مقهورة، وهذه الآية الفذة ترشد المؤمنين إلى ما يجب عمله في مثل هذه الأحوال التي يُدَال فيها على المؤمنين، ويغلبون على أمرهم؛ فمن هذه الإشارات.. أن حب الدنيا والافتتان بها هو سبب الفشل والتنازع في الأمر والعصيان، وهذا صريح في الآية بقوله تعالى: "مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ" فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد": "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ". ومنها: أن يعلم أن الشدائد يراد بها تمحيص قلوب المؤمنين من الأغراض والأهواء والمنافع الشخصية كما في قوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ" [آل عمران، 140]. ومنها: أن لا يتسرب الوهن في الساعات الرهيبة إلى قلوب المؤمنين وألا يغلب عليهم الحزن، وألا يجد اليأس إليها سبيلا.. ومنها: أن يعلم المؤمن أن في أوقات الشدائد والأزمات لا بد من الخروج النطاق الوجودي الخاص إلى فضاء الاهتمام بالشأن العام وتغليب معياره ومصلحته، أو بعبارة أخرى لابد من تغليب مصالح الأمة العامة على المصالح الشخصية أو الطائفية الخاصة كما عبر عن ذلك الفقهاء بقولهم "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام"، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" [آل عمران، 142]. والله المستعان