تروم هذه الورقة إبرازَ أهمية الفهارس في إعادة كتابة التاريخ الفكري والعمراني للمغرب، فهي بالإضافة إلى بعدها المتعلق بالتراجم والأعلام تعتبر كثيفة المعلومات المتعلقة بالأماكن الدينية والمدنية والمرتبطة عضويا بالحركة العلمية.. نهتم كذلك بدراسة كتب التراجم والمناقب المرتكزة أساسا حول مدينة فاس، ككتاب ابن عيشون الشراط "الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس"[1]، وكتاب الولالي "مباحث الأنوار في أخبار بعض الأخيار"[2]، وكتاب "سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من الصلحاء والعلماء بفاس" لمحمد بن جعفر الكتاني[3]. ثمة أهداف مركزية لهذا المشروع العلمي تتمثل أساسا في: أهداف علمية تتجلى في الإسهام في إعادة كتابة التاريخ الفكري للمغرب، وهو تاريخ لم يحظ بعد بما يستحقه من اهتمام، فقد لا حظنا أن الكثير من الفهارس تمدنا بمعلومات تاريخية وعمرانية ثمينة، نذكر على سبيل المثال "جمهرة التيجان وفهرسة الياقوت واللؤلؤ والمرجان في ذكر الملوك وأشياخ المولى سليمان" لأبي القاسم الزياني[4]، و"إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ" لمحمد بن الحاج السُّلمي[5]؛ وأهداف تربوية تهدف إلى جعل التاريخ العلمي والثقافي شيئا محبوبا ومألوفا عند الشباب والمثقفين وعامة الناس؛ وتخليد الأسماء في الأماكن؛ ورفد البرامج التعليمية بنصوص مستقاة من التراث العلمي المغربي؛ وأهداف عمرانية، وثقافية، وسياحية.. في هذا الإطار أدرج ما ذكره محمد حمزة الكتاني في مقدمة كتب "سلوة الأنفاس" بقوله: "أما عن منهج "السَّلوة " فيمكن تلخيصه بكون المؤلف يدور دورة حلزونية على زقاق ودروب وأحياء فاس؛ الأمر الذي حفظ به معالمها وطريقة بنائها(…) وتتجلى القيمة العمرانية لكتاب "السلوة" في كونه اتبع منهج "السيرورة الجغرافية"، وهي نفس الطريقة التي سبقه إليها ابن عيشون الشّرَاط في كتابه القيّم "الروض العاطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس"، بل إن المؤلف يأخذك معه- كما يرى الدكتور محمد حمزة الكتاني- في زقاق وأحياء فاس كأنك تتجول حول أضرحتها ومقاماتها، وهو دور مهم في إحياء السياحة الدينية بفاس، ورد الاعتبار لأعلامها الذين هم أعلام الإنسانية من جهة، وحفظ للمعالم التاريخية للمدينة من جهة أخرى. ثمة هدف آخر يتمثل في جذب الباحثين والمؤرخين والأنثربولوجيين إلى حقل الدراسات التراثية المغربية بحثا عن الثقافة والاجتماع وقواعد العمران، وبحثا عن مكامن القوة والضعف، وعن المفاصل التي أفضت إلى التخلف في كثير من مناحي الحياة.. ويكفي هنا أن نذكر بأن المادة التراثية المغربية شكلت وما تزال مادة غنية اشتغل عليها الأنثربولوجيون الأجانب، خصوصا أتباع المدرسة الأنجلوساكسونية مثل كليفورد جيرتز وديل إيكلمان وإرنست جيلنير وكينيث براون… وديل إيكلمان هو صاحب كتاب "المعرفة والسلطة في المغرب..صورة من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين"، الذي صدر بالإنجليزية سنة 1986، وترجمه الأستاذان محمد أعفيف ومصطفى الوجاني. ويقدم الكتاب، شجرة عائلة الفقيه عبد الرحمان المنصوري وسيرته الفكرية وعلاقاته الاجتماعية. ويعرف المؤلف أيضا بالسياق السوسيو-اقتصادي لقرية "بزو" بالأطلس الكبير الأوسط، كما يرسم ويحلل المشاكل التي واجهتها الثقافة الكلاسيكية التقليدية، ويرصد تحولها إلى ثقافة مسكونة بتجديد السلفية ومعاهد التعليم الأصيل. ومن خلال رؤية الفقيه عبد الرحمان المنصوري، يحاول الكاتب رسم صورة ضمنية للانتقال من الإسلام الشعبي إلى ذلك الإسلام العالم، كما يحاول المؤلف أن يفهم العلاقة بين السلطة والصلات المفتوحة بين المدرسة والمجتمع. واعتبر الأنثربولوجي الأمريكي أن الهدف من كتابة "المعرفة والسلطة في المغرب" كان هو الإسهام في فهم دور المثقف الديني في تطوير المجتمع والعالم العصري، وقد اعتمد إيكلمان على كل ما وقعت عليه يداه من كتب تراجم وفهارس وكنانيش من أجل فهم البنية الفكرية والثقافية للمجتمع المدروس.. من الناحية المنهجية والنظرية يعد كليفورد غيرتز من أهم الباحثين الأنتربولوجيين المعاصرين، بالإضافة إلى كونه من الباحثين الميدانيين الكبار، فقد طبق ما أطلق عليه اسم "الوصف الكثيف" description dense للمعطيات الميدانية أو ما يسمى التحليل الرمزي وتحليل المعنى والأنساق الثقافية. وكتاب غيرتز "سوق صفرو" هو أشهر كتبه حول المغرب[6]، قام فيه بدراسة ظاهرة السوق التقليدية بصفرو إبان الستينات، كما اعتنى بخصوصية المعاملة الاقتصادية في إطار ثقافي محلي، من أجل البحث في علاقة الاقتصاد بالثقافة… والطريف أن جيرتز استعمل كل المصادر التراثية المتاحة، ككتب التاريخ العام والتراجم والفهارس، بالإضافة إلى عمله الميداني الكبير والمثمر.. لقد استفدنا كثيرا من منهج كليفورد غيرتز المسمى الوصف الكثيف، ولو أننا لا ندعي استعماله إلى أبعد مدى، ذلك أننا اعتمدنا التفكيك ولم نصل بالتركيب إلى مداه، مما يضفي على عملنا طبيعة المشروع المفتوح على عديد الآفاق.. وفق هذا المنهج المعتمد على التفكيك والتركيب يمكن أن نستفيد من الفهارس المغربية كاقتراح إعادة تأهيل مدينة فاس عمرانيا مع أخذ تاريخ العلم والثقافة بعين الاعتبار، وتجاوز الاهتمام الفولكلوري، ونقد المعرفة التراثية.. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ————————– 1. دراسة وتحقيق زهراء النظام، جامعة الرباط، 1997. 2. دراسة وتحقيق عبد العزيز بوعصاب، جامعة الرباط، 1999. 3. دار الثقافة. 2004. 3 أجزاء، تحقيق عبد الله الكامل الكتاني، حمزة الكتاني و محمد حمزة الكتاني. 4. دار الكتب العلمية، بيروت 2003. تحقيق عبد المجيد خيالي. 5. دار الكتب العلمية، بيروت تحقيق محمد حمزة الكتاني. 6. Clifford Geertz. Le souk de Sefrou: sur l'économie du bazar. Editions 2003.