لقد حَثَّ الإسلام على العمل، وجعله من القربات مع استحضار نية الكسب الحلال للتقوِّي على العبادة والنفقات الواجبة؛ قال تعالى: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الاَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" [الجمعة، 10]، وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ" [الملك، 16]. غَيْر أنَّه لم يُحدد لأحد عملاً معينًا، وترك حرية اختيار العمل لكل فرد، فقدراتُ الأفراد تختلف، ومواهبهم أيضًا، وتحديد عمل معين من قِبَل الدولة أو النظام يقتل المواهب، ويظلم البعض إذا تحملوا فوقَ قدرتهم أحيانًا. كما أنه لا يوجد عمل يحتقره الإسلام ما دام مشروعًا، فالعقيدة الإسلامية تحكم على الأفراد بالتَّقْوَى والصلاح لا بالوظيفة، والعمل وسيلة لتحصيل المال للتقرُّب به إلى الله سبحانه وتعالى. والتنافُس بين المسلمين مشروعٌ، وفيه مصلحة المجتمع ككل؛ قال صلى الله عليه وسلم: "دَعُوا النَّاسَ يُرْزَقْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ"[1]، بيد أن هذا التنافس لا يكون بالغش والإضرار بالآخرين، ولكن بمضاعفة الجهد والجودة. وكان العدل ومراعاة الفطرة هو السِّمة العامة للنظام الاقتصادي في الإسلام، فقد جعل للأفراد حقَّ وحريةَ الملكية الخاصة وأقرَّ بذلك؛ قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا اَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ" [يسن، 70]، وقال تعالى: "فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ" [البقرة، 278]، هذا هو مبدأ الإسلام: لا ظلمَ، فمن تعب في تحصيل المال فمن حقِّه أن يتملكه، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه"[2]. فكل المال فيه حق الملكية للأفراد، ولكن أيضًا لم تجعل الشريعة هذا الحقَّ مطلقًا؛ بحيث يُحدِث ضررًا في المجتمع المسلم، فلا يجوز تملك المحرَّمات؛ مثل الخمر وأدوات المعازف، أما غير ذلك مما أباح الله، فلم تكتفِ الشريعة فقط بالاعتراف بحق الملكية فيه؛ بل قامت بحمايتها، فلا يجوز التعدي على ملك الآخرين؛ قال تعالى: "وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا" [النساء، 2]، ولكن مع إقرار الإسلام للملكية الخاصة للمال وحمايته، فقد وضعه تحت قواعدَ عامةٍ وتنظيمات وقيود، فيجب أن يكون منشؤه مشروعًا؛ مثل الاتِّجار المباح، أو الإرث، أو الهبة، وإلا أمر بنزعه ومعاقبة صاحبه، ولم ينظر إلى قدر المال؛ بل المعتبر حِلُّ مصدره، على العكس من الماركسية التي أخذتْ أموال الناس بغير حق، بدعوى أنَّ المال الزائد عن حاجة الفرد لا يَحقُّ له، ولم تراعِ أنه هو مَن تعب فيه؛ مما ولد الأحقاد بين الطبقات الاجتماعية، وساوتْ بين المجتهد والمتواكل؛ فنشأ مجتمعٌ متواكل، لا توجد به روح المنافسة ولا الإبداع. وفي الوقت نفسه فرضتِ الشريعة على صاحب المال أخذَ جزء يَسيرٍ من هذا المال؛ مواساةً للفقراء والعاجزين عن العمل، من باب التكافُل والأُخُوة الإيمانية التي يقوم عليها المجتمع، وجعلت على ذلك الأجرَ الكبير في الآخرة، يتمثل هذا الجزء في الزكاة. هذا بالنسبة للقيود على نشأة المال، أمَّا على تنميته، فلا يَجوز أن يُنمَّى من الحرام؛ مثل الاتجار بالمحرَّمات، والغش، والرِّبا، والاحتكار، وهذا على العكس من النِّظام الرأسمالي، الذي رأى حق الملكية مطلقًا، فلا مواساةَ، ويحق تنمية المال بأي طريقة حتى ولو كانت عن طريق استغلال حاجة الناس بالاحتكار والرِّبا؛ مما ولَّد الأحقاد بين أفراد المجتمع، فينشأ مجتمع تسوده الأَثَرَةُ والغش. وهناك قيود أيضًا على إنفاق هذا المال، فلا يَجوز إنفاقه في المحرَّمات وما يُغضِب الله. وقد ينزع الإسلام الملكية الخاصَّة بالكلية، ولكن عند ظروف معينة، مثل تعلُّق حق الآخرين بها، كحال المَدِين الذي حَلَّ دَيْنُه، وطلب الدائنون حقوقَهم من القاضي. أو عند احتياج الدولة الضَّروري لهذا الملك، مثل قطعة أرض لتوسعة طريق، فيعوض صاحب الملك التعويضَ المُرْضِي من غير ضرر ولا إضرار.. يتبع في العدد المقبل… —————————————- 1. حديث شريف، رواه مسلم في صحيحه. 2. حديث شريف، أخرجه الدارقطني في سننه.