قال عز وجل تقدست أسماؤه وصفاته: "رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم"ِ [إبراهيمِ، 38]. إن قوله تعالى: "رب إنهن أضللن كثيرا من الناس" بمثابة التعليل لدعاء إبراهيم بإجنابه عبادة الأصنام لأنها ضلال انتشر بين كثير من الناس. يستحضر المؤرخ في هذا المقام أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أور الكلدانيين إنكارا على عبدة الأصنام. قال تعالى حكاية عن إبراهيم: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" [الصافات، 99]، وقال أيضا: "وأعتزلكم وما تدعون من دون الله" [مريم، 48]. و لما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام، ثم جاء عربة تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جرهم قوما على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام. ثم أقام هنالك معلم التوحيد، وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل. وقد فرع إبراهيم على هذا التعليل معيار الانتماء إليه، وذلك هو مفاد قوله تعالى: "فمن تبعني فإنه مني" أي فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بالله والإخلاص لعبادته فإنه ينتمي إلى ملتي وديني. ونظيره ورد في قوله تعالى: "ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من اَهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم اِني أعظك أن تكون من الجاهلين" [هود، 45-46]، و"مني" اتصالية، وأصلها التبعيض المجازي، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله. أما من خالف أمر إبراهيم ولم يكن على ما هو عليه من الإيمان الصحيح بالله والإخلاص الصادق له فإن الله غفور رحيم. ويستفاد من قوله: "وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [إبراهيم، 38]. أن إبراهيم وغيره من الأنبياء والمرسلين لم يكونوا على منهج اللعن والطعن والشماتة والتشفي. قال تعالى على لسان عيسى بن مريم: "اِن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" [المائدة، 120]. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: "رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم"ِِ، وقوله تعالى: "اِن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك العزيز الحكيم"، ثم رفع يديه وقال: "اللهم أمتي اللهم أمتي" وبكى[1]. ومهما يمكن أن يقال في شأن المعنى المقصود من قوله تعالى: "ومن عصاني فإنك غفور رحيم"[2]؛ فإن إبراهيم في هذا المضمار يقدم أنموذجا لما ينبغي أن يكون عليه المتضرع إلى الله تعالى في دعائه. وما ينبغي أن يكون عليه المتضرع هو تفويض الأمر دائما إلى الله تعالى والتأدب في مقام الدعاء والرغبة الصادقة في حب الناس والسعي إلى نفع العصاة منهم قدر الاستطاعة. قال الإمام بن عاشور رحمه الله: "ليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى. وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام، وخشية من استئصال عصاة ذريته. ولذلك متعهم الله قليلا في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى: "قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبيس المصير" [البقرة، 125″[3]. —————————————– 1. تفسير الطبري، ج 13 ص 229 و قيل إن في قوله تعالى: "ومن عصاني فإنك غفور رحيم" ثلاثة أقوال: أولها ومن عصاني وتاب فإنك غفور رحيم، والثاني: ومن عصاني في ما دون الشرك فإنك غفور رحيم، والثالث: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم أن تتوب عليه فتهديه إلى الإيمان والتوحيد. وقيل يحتمل أن يكون قد دعا بها قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه لا يغفر لمن يشرك به ويغفر لما دون ذلك لمن يشاء. فقد استغفر لأبيه . ينظر ابن القيم، زاد المسير في علم التفسير ج: 4، ص: 365. 2. ينظر للتوسع في أقوال المفسرين في مفاتيح الغيب ج: 19، ص: 110. 3. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 13، ص: 240.