يقول عز وجل في محكم كتابه العزيز: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُومِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ" [إبراهيم، 42 -43]. هذا دعاء آخر من إبراهيم عليه السلام يطلب من خلاله ثلاثة أمور: أولهما: دوام إقامة الصلاة؛ والثاني: قبول الدعاء؛ والثالث: المغفرة.. 1. دوام إقامة الصلاة: طلب إبراهيم من الله تعالى أن يجعله مقيما للصلاة في المستقبل، أي مداوما عليها، ولم يخصص نفسه بهذا المطلوب، وإنما أراده أن يكون شاملا له ولذريته لقوله تعالى: "ومن ذريتي". وهذا صفة لموصوف محذوف معطوف على ياء المتكلم، تقديره: اجعل مقيمين للصلاة من ذريتي. وكما يحتمل أن تكون "من" للتبعيض يحتمل أن تكون ابتدائية؛ لأنه قد يحتمل أن الله تعالى أعلمه بأن سيكون من ذريته فريق يقيمون الصلاة، وفريق لا يوفق لإقامتها، ويحتمل أن تكون "من" ابتدائية؛ لأن إبراهيم عليه السلام لا يسأل الله إلا أكمل ما يكون لنفسه ولذريته، وقد استبعد بعض العلماء الاحتمال الأول لقوله تعالى: "واجنبني وبني أن نعبد الاَصنام"[1]. 2. قبول الدعاء: كما طلب أن يتقبل الله تعالى دعاءه، وحّفت ياء المتكلم في "دعاء" في قراءة الجمهور تخفيفا. 3. المغفرة: طلب إبراهيم عليه السلام المغفرة لنفسه ولوالديه وللمؤمنين[2]. ومن أبرز الملاحظ التي تستوقف المتدبر لهذا الدعاء الصادر من إبراهيم في هذه السورة تكراره الخاشع لِكَلِم "ربنا" أو "رب". والمقصد من ذلك هو الإلحاح على قضية الدَّيْنونَة لله تعالى؛ لأنها تمثل أساس حريتهم الإنسانية. وإنها لعمري قضية مفصلية في عوالم الحياة الواقعية للناس، ولهذا، وكما أشار الأستاذ سيد قطب، إن "القرآن وهو يَعرض على مشركي العرب دعاء أبيهم إبراهيم، والتركيز فيه على قضية الربوبية، كان يلفتهم إلى ما هم فيه من مخالفة واضحة لمدلول هذا الدعاء"[3]. —————————————— 1. الرازي، مفاتيح الغيب ج: 19- ص: 115، ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 13، ص: 244. 2. هذا الدعاء لأبويه قبل أن يتبين له أن أباه عدو لله كما في آية سورة التوبة: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه" [التوبة، 115]. 3. سيد قطب، في ظلال القرآن، ج: 13، ص: 2111.