في عصر الموحدين وفي عهد عبد المؤمن بالخصوص شهدت الحركة النسائية نهضة حيوية مثالية في خضم مجموعة من التحولات التاريخية التي شهدها هذا العصر.. وتتجسد هذه الحركة الفعلية في سلسلة من الإنجازات والعطاءات العلمية الغزيرة التي قدمتها المرأة الموحدية في مختلف مجالات الحياة العامة، فنالت بذلك مكانة عالية لا يستهان بها "ولعل قائلا يقول وما نصيب المرأة في هذه النهضة الشاملة الكاملة؟.. والجواب أن المرأة كانت عنصرا فعالا في تطور البلاد وتقدمها وازدهارها..إلى جانب دورها في تأسيس كلية القرويين ومشاركتها في الأعمال السياسية والأدبية في العصر المرابطي"[1] كما كان لبنات الأمراء في هذا العصر دورا بارزا في تحفيز بنات الشعب على تعلم العلم والإقبال على أهله، ولا ننسى عبد المؤمن[2] الذي مد جسور هذه النهضة العلمية وكان له دور كبير في إحيائها حيث "جعل التعليم إجباريا على النساء والرجال.."[3]. وفي ظل هذه النهضة العلمية والفكرية المتنوعة نبغت السيدة الزاهدة خيرونة الفاسية، وهي من النساء الأندلسيات اللائي دخلن المغرب، واتصلت بأعلامه وتوفيت به[4]. عرفت بغزارة علمها وتضلعها في مختلف العلوم الشرعية كانت رحمها الله تحضر مجالس العلم متأدبة حيث أخذت العلم عن علماء أجلاء فحفظت القرآن الكريم وأصبحت متقنة لعلم الفقه والحديث والتفسير والأصول.. فكانت "تحضر مجلس عثمان السلالجي إمام أهل فاس في الأصول وعلم الاعتقاد"[5] كما عرفت هذه السيدة الجليلة بحبها لعلم التصوف فقد أخذت منه علوما جمة حتى صارت من النساء الرائدات في مجال التربية الباطنية[6].. فإلى جانب ذلك كانت تهتم بعلم العقيدة وعلم الكلام فقد ساهمت بشكل كبير "في نشر التوحيد على مذهب الأشعري بين نساء أهل فاس[7] فكانت حريصة أشد الحرص من أن "تجعل عقيدتها في مأمن من الانحراف والزيغ، فرغبت إلى السلالجي-شيخ الفاسيين في علم الاعتقادات- أن يكتب لها عقيدة مختصرة وافية بمطلوبها"[8] وفي هذا دليل واضح على الدور الكبير الذي توليه المرأة لهذا العلم الذي يعتبر من أعظم الواجبات وآكدها في الشريعة الإسلامية. فقد تقرر عند عالمتنا الجليلة أن علم العقيدة له أهمية كبيرة في الدين الإسلامي، فالإسلام عقيدة وعملٌ، ولا يَصِح عملٌ بلا اعتقادٍ، ولا ينفع عمل بلا عقيدة صحيحة.. فحرصها الكبير هذا وشغفها المتزايد في تلقي هذا العلم يوما بعد يوم دفع الإمام السلالجي[9] إلى تأليف عقيدته البرهانية من أجلها، ومن أسباب تأليف هذه العقيدة يقول ابن مومن تلميذ السلالجي: "كان بمدينة فاس امرأة تسمى خيرونة، وكانت من الصالحات القانتات الزاهدات الغافلات المؤمنات، وكانت تعظمه وتوقره وتلزم مجلسه، فرغبت إليه أن يكتب لها في لوحها شيئا تقرأه على ما يلزمها من العقيدة، فكان يكتب لها في لوحها فصلا متى كلفته ذلك، فكانت تحفظه، فإذا حفظته ومحته كتب لها لوحا ثانيا، فكان ذلك دأبها حتى كملت عقيدة وكتبتها وكتبت عنها ولقبت بالبرهانية وصارت بأيدي الناس كثيرا"[10].. وهكذا يمكن القول بأن المرأة الموحدية وخاصة عالمتنا الجليلة خيرونة الفاسية التي نبغت في العصر هي الأنموذج المثالي المتألق في علم العقيدة فكرا وسلوكا ومنهجا فبهمتها العالية كانت حريصة على تعلم هذا العلم والنهل من معينه الرباني المتكامل لشرف قدره وعظيم مكانته بين مختلف العلوم الشرعية، وفي هذا دليل واضح على الحضور المتميز للمرأة في الحقل العقدي وفي الحقل الديني بصفة عامة.. وقد توفيت رحمها الله تعالى سنة (594 ه/ 1197م) ولمكانتها العلمية والدينية دفنت بإزاء قبر الفقيه دراس بن إسماعيل الذي دفن شيخها السلالجي بإزاء قبره[11]. رحم الله عالمتنا الجليلة ونفعنا الله بعلمها وأسكنها الله فسيح جنانه أمين والحمد لله رب العالمين. ————————————————————– 1. النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف العلامة عبد الله كنون الجزء الأول، ص: 144، دار الثقافة الطبعة الثانية. 2. عبد المؤمن بن علي الكومي (487 ه- 558 ه، 1094 – 1163م) كان الخليفة المؤسس لدولة الموحدين وحكمها من العاصمة مراكش من سنة 1147 م وحتى 1163 م. وطبق ما أخذه من سلفه من فقه ظاهري وفكر أشعري، فكان أول من وحّد كامل الساحل المتوسطي من مصر إلى المحيط الأطلسي فحكمها دولة واحدة هي والأندلس وجعلها تحت عقيدة واحدة وتحت حكومة واحدة. 3. الدولة الموحدية بالمغرب في عهد عبد المؤمن بن علي. علام عبد الله، ط: دار المعارف القاهرة1971. 4. العلوم والأدب والفنون على عهد الموحدين للمنوني محمد، ص: 35، ط: دار المعارف للتأليف والترجمة الرباط 1977. 5. ابن مومن بغية الراغب عن المديوني الشرح 60-61 نقلا عن عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، الدكتور جمال علال البختي، ص:186. 6. علم التصوف الذي يهتم بتزكية النفس وتطهير القلب من مختلف الأمراض الباطنية. 7. النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف العلامة عبد الله كنون الجزء الأول، ص: 144، دار الثقافة الطبعة الثانية. 8. الإنصاف، للباقلاني، تصحيح زاهد الكوثري، ص: 185. 9. أبي عمر عثمان بن عبد الله القيسي المعروف بالسلاجي نسبة إلى جبل سليلجو (ت 564ه/1169م) الذي كان إمام أهل المغرب في علم الاعتقاد. 10. ابن مومن بغية الراغب عن المديوني الشرح 60-61 نقلا عن عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، الدكتور جمال علال البختي، ص:186. 11. عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، الدكتور جمال علال البختي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المملكة المغربية الطبعة الأولى 1426ه/2005م، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ص:184.