الثالثة: الضمانة السياسية العادلة الدولة العادلة ضامنة للحقوق الإنسانية في التعليم والتربية والتثقيف أولاً، ثم في صناعة الرأي الاجتماعي العام، الذي يحترم الحقوق ويقدسها؛ لأنها حرمات الناس ومأمنهم، فإذا وجد من ينتهك الحقوق فردياً واجتماعياً، ولا يردعه خلقه ولا تردعه أخوة الإيمان، وأدى انتهاكه إلى ظلم الآخرين، وجب تدخل الدولة لتحفظ الحقوق وتصونها، ومؤيدها المحاكم القانونية والشرعية، والأجهزة التنفيذية الرسمية، وهذه الضمانة لا يلجأ إليها إلا إذا وجد مشتك أولاً، وتحددت الجهة المشتكى عليها، سواء كانت فرداً أو جماعة أو الدولة نفسها، وتحددت الشكوى. هذه هي الضمانات التي يقدمها الدين للتمسك بالحقوق وأداء الواجبات لأهلها، ولكن لا بد من التذكير بأن الحديث عن ضمانات حقوق الإنسان هو أمر نسبي وأيديولوجي، فمن الممكن لعلماء المسلمين أن يتحدثوا عن أصالة حقوق الإنسان في الإسلام، وأن يؤسسوا مواثيق إسلامية لحقوق الإنسان بمفردهم، واعتبارها حقوقاً إنسانية عالمية[1] بحكم أن رسالة الإسلام رسالة عالمية من حيث أساسها، وان يعتقدوا أن التقوى الإيمانية والالتزام الصادق بالأحكام الشرعية أقوى ضمانة لتنفيذ حقوق الإنسان بين المسلمين، ومع غير المسلمين، في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه، ومؤيدات هذه النظرة أن الدين أكثر تأثيراً على الإنسان من أي مبدأ آخر، وأن الدين أكبر وازع للضمير الفردي، وأكبر دافع للالتزام الجماعي، وهو المبدأ الوحيد الذي يوجب الإيمان باليوم الآخر، وهو يوم الحساب، الذي لا ينفع في حقوقه ومحاكمه الكذب والتزوير والافتراء وتلبيس الحق بالباطل كما قد يحصل في حقوق الدنيا ومحاكمها. ولكن هذه القناعات ستبقى خاصة بالمسلمين وحدهم، ولن يؤمن بها غير المسلمين حتى يتفهموا الإسلام على حقيقته وإن لم يعلنوا إسلامهم، ونسبة هؤلاء في المجتمعات غير الإسلامية قليلة، لوجود مدارس ومؤسسات وجامعات غربية وظيفتها الإساءة للإسلام وكتابه ورسوله، فكيف تتفهم تلك الشعوب فكرة حقوق الإنسان وضماناتها الإيمانية الدنيوية والأخروية، في عصر اتسم عقده الأول بالعداء الثقافي للإسلام بين غير المسلمين، وبالأخص إذا لم تجد لهذه الحقوق واقعاً عملياً يصدقها في بلاد المسلمين، لا من الحكومات ولا من بعض المسلمين الذين لا يتحيزون لقضية حقوق الإنسان الإسلامية في العصر الحديث، ولا يحسنون خطابه. لذا ستبقى المواثيق الإسلامية المعلنة نصوصاً حقوقية نظرية، لا تصنف بدوافع الحاجة العلمية إليها بقدر ما تصنف بسبب مواجهة التحدي الثقافي الخارجي، وبقصد التفاعل الحضاري مع الثقافية العالمية، وبهدف رد الهجمات الثقافية الخارجية، التي فرضت قضية حقوق الإنسان ذريعة للتدخل السياسي أو العسكري في البلاد الإسلامية. هذا من حيث مكانة حقوق الإنسان وضماناتها بين الثقافة الإسلامية والثقافات العالمية، على أن ضمانات حقوق الإنسان في الثقافات غير الإسلامية لا تتعدى الآداب الاجتماعية والقوانين الحقوقية غير الملزمة مل لم تلجأ للمحاكم الرسمية، إضافة لما يمكن أن تلعبه منظمات حقوق الإنسان الغربية من دور تثقيفي في داخل مجتمعاتها، في المدارس الأساسية والجامعات وفي الأوساط الاجتماعية، رغبة في تصنع الإنسان الغربي أن يتحلى بها أمام مجتمعه، وإن لم يؤمن بها ولا يثق بها، فضلاً عن انهماكه في مخالفتها يومياً مع أسرته وفي عمله وفي كل نواحي حياته الخاصة، بذرائع الحرية الشخصية الفردية، وحرية السوق، وغيرها من الذرائع.. ————————————————————- 1. حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأممالمتحدة، الشيخ محمد الغزالي، ص: 7، وكتاب: حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، مولاي ملياني بغدادي، ص: 67. يتبع في العدد المقبل