إن الباحث في قضايا تاريخ التصوف الإسلامي يدرك في الحقيقة الحاجة الملحة لدراسات وأبحاث علمية جادة، من أجل استخراج دُرره وحقائقه التي تغيب عن الكثير من الناس، وللأسف الشديد ما زالت مغالطات وأطروحات لا أساس لها من الصحة هي سيدة هذا المجال، فغدا التصوف عند الكثيرين انعزالا وخمولا وهروبا من الواقع.. بينما إذا رجعنا إلى كتب التاريخ والتراجم والطبقات.. يتبين لنا بجلاء الجهود العظيمة، والبطولات الفريدة التي كان لها الأثر الايجابي سواء على الفرد أو المجتمع، ويتضح حجم الظلم الذي لحق بالتصوف وأهله. وفي هذا الموضوع سنعالج دورا من بين الأدوار الهامة التي قام بها الصوفية والتي كان لهم فيها الحظ الوافر والسعد الفاخر، وهي: دورهم في جهاد الأعداء والدفاع عن الوحدة الترابية للمغرب. إن تاريخ التصوف بالمغرب هو تاريخ الجهاد والمجاهدة فهما متلازمين لا ينفكان. فمفهوم الجهاد عند الصوفية مرتبط بمفهوم المجاهدة، يقول الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن: "الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: "وجاهدوا في الله حق جهاده" [الحج، 76]، "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" [التوبة، 41]، "إن الذين ءَامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" [الاَنفال، 73][1]. فلا مجاهدة بدون جهاد، ولا جهاد بدون مجاهدة، هذا التلازم الذي يغفل عنه الكثيرون ويتهم الصوفية بالخمول وعدم مقاومة العدو والاستكانة إلى ما يسمى بالتواكل، وأن ذلك قضاء الله قضاه على هذه الأمة، لا مفر منه، ولا دافع له ولو عملنا كل ما بوسعنا أن نعمله، ويستدلون ببعض قضايا الأعيان وعمموا الحكم على كل الصوفية بمقتضاها، وهذا من الظلم الشنيع عليهم والافتراء على التاريخ الناصع الذي خلَّد لنا أسماء وأعلاما يمثلون رموزا للجهاد والدفاع عن حوزة الوطن، بل صاروا مصدر إلهام وقوة واستمداد لمن أتى بعدهم. يقول أبو تراب النخشبي[2] ومن الدلائل أن تراه مسافرا نحو الجهاد وكل فعل فاضل ويقول سامي النشار: "وضع الصوفية المرابطة في الثغور شرطا من شروط التصوف"[3]. وسنذكر نماذج من رموز الجهاد على مر التاريخ المغربي، ونبدأ بالشيخ أبي المحاسن يوسف الفاسي. 1. الشيخ أبو المحاسن الفاسي وهو من الذين شاركوا في معركة وادي المخازن مع مريديه، كما شارك فيها العديد من رجالات التصوف، يقول صاحب مرآة المحاسن: "وقال في المنتقى:.. كانت هذه الغزوة من الغزوات العظيمة الوقائع الشهيرة حضرها جم غفير من أهل الله تعالى حتى إنها أشبه شيء بغزوة بدر"[4]، وسبب هذه المعركة هو: أن السلطان المخلوع أبا عبد الله محمد المتوكل بن عبد الله السعدي، لما انتصر عليه عمه أبو مروان عبد الملك بن الشيخ السعدي وأخوه أحمد، واستيلاؤهما على فاسومراكش، فرَّ المتوكل إلى سوس حيث جمع جُموعا واستولى على مراكش، ولم يَدُم فيها فهرب إلى طنجة مستصرخا بملك البرتغال سبستيان، "وتطارح عليه وشكا إليه ما ناله من عمه أبي مروان المعتصم بالله، وطلب منه الإعانة عليه كي يسترجع ملكه وينتزع منه حقه فأشكاه الطاغية، ولبى دعوته، وصادف منه شرها إلى تملك سواحل المغرب وأمصاره فشرط عليه أن يكون للنصارى سائر السواحل وله ما وراء ذلك فقبل أبو عبد الله ذلك والتزمه وللحين جمع الطاغية جموعه واستوعب كبراء جيشه ووجوه دولته وعزم على الخروج إلى بلاد الإسلام"[5]، ووقع خلاف بين المؤرخين في تحديد عدد جيش البرتغاليين، يقول الناصري: قال ابن القاضي في المنتقى: "عدده مائة ألف وخمسة وعشرون ألفا.. "، وقال أبو عبد الله محمد العربي الفاسي في مرآة المحاسن: يُقال: أن مجموعهم كان مائة ألف وعشرين ألفا، وأقل ما قيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل، وكان مع محمد بن عبد الله نحو الثلاثمائة من أصحابه، قال بعضهم، وكان عدد الأنفاض التي يجورونها مائتين وقصدوا هلاك المغرب وحصد المسلمين وإدارة رحى الهوان على الدين فعظم ذلك على الناس، وامتلئت صدورهم رعبا وقلوبهم كربا، وبلغت القلوب الحناجر، واتقت بها نيران الهواجر"[6]. وزحف الجيش من طنجة في ربيع الثاني سنة ست وثمانين وتسعمائة ولما اقتربوا من مدينة القصر الكبير هلع الناس لعدم مقدرتهم على مجابهة العدو، ولم يكن لهم حل سوى الفرار في شعاب الجبال، والاحتماء في القفار، لكن الأذى والأمر من ذلك تأخر إمدادات السلطان عنهم، لكن من لطف الله بهم أن قيض الله لهم الشيخ أبا المحاسن الفاسي الذي هدأ من روعهم، حيث أمر رجلا من أصحابه بأن ينادي الناس: "أن الزموا بلادكم ودوركم؛ فإن عظيم النصارى مسجون حيث هو حتى يجيء السلطان من مراكش وإن النصارى غنيمة للمسلمين ومن شاء فليعط خمسين أوقية في النصراني، يشير إلى مبلغ قيمة النصراني في الغنيمة فما انتقل النصارى من مكانهم ذلك أكثر من شهر حتى قدم السلطان أبو مروان، وكان مريضا"[7]. استدرج السلطان أبو مروان العدو للقدوم إلى وادي المخازن، ولما نزل العدو بالمحلة "عبر جسر الوادي ونزل من هذه العدوة فأمر السلطان بالقنطرة أن تهدم ووجه إليها كتيبة من الخيل فهدموها، وكان الوادي لا مشرع له سوى القنطرة، ثم زحف السلطان أبو مروان إلى العدو بجيوش المسلمين وخيل الله المسومة"[8]، "ولما التقت الفئتان وزحف الناس بعضهم إلى بعض وحمي الوطيس واسود الجو بنقع الجياد ودخان المدافع، وقامت الحرب على ساق توفي السلطان أبو مروان رحمه الله عند الصدمة الأولى، وكان مريضا يقاد به في محفته فكان من قضاء الله السابق ولطفه السابغ، أنه لم يطلع على وفاته أحد إلا حاجبه مولاه رضوان العلج؛ فإنه كتم موته وصار يختلف إلى الأجناد ويقول السلطان يأمر فلانا أن يذهب إلى موضع كذا وفلانا أن يلزم الراية وفلانا يتقدم وفلانا يتأخر. وقال شارح الزهرة: "لما توفي السلطان أبو مروان لم يُظهر الذي كان سائس المحفة موته فصار يقدم دواب المحفة نحو العدو، ويقول للجند السلطان يأمركم بالتقدم إليهم وعلم أيضا بموته أخوه وخليفته أبو العباس أحمد بن الشيخ فكتمها ولم يزل الحال على ذلك والناس في المناضلة والمقاتلة ومعانقة القواضب والاصطلاء بنار الطعان واحتساء كؤوس الحمام"[9]. وكان الشيخ أبو المحاسن الفاسي في ساحة المعركة مع مريديه يقاتل الأعداء، قال عنه صاحب مرآة المحاسن: "وكان شجاعا رابط الجأش، ثابت الجنان، لا تستفزه الحوادث، ولا تهزه الطوارق. ولقد كان في أحد الجناحين وأظنه: الميسرة من عساكر المسلمين في مقابلة النصارى -دمرهم الله- ومقاتلتهم في الغزوة العظمى (..)، فوقع في ذلك الجناح انكسار تزحزح به المسلمون عن مصافهم، وحملت عليهم النصارى -دمرهم الله- فثبت الشيخ وثبت من كان معه"[10]. إلى أن هبت على المسلمين ريح النصر وساعدهم القدر وأثمرت أغصان رماحهم زهر الظفر، فولى المشركون الأدبار ودارت عليهم دائرة البوار وحكمت السيوف في رقاب الكفار ففروا ولات حين فرار وقُتل الطاغية سبستيان عظيم البرتغال غريقا في الوادي وقصد النصارى القنطرة فلم يجدوا إلا آثارها فخشعت نفوسهم وتهافتوا في النهر تهافت الفراش على النار فكان ذلك من أكبر الأسباب في استئصالهم وأعظم الحبائل في اقتناصهم ولم ينج منهم إلا نزر وشرذمة قليلة"[11]. وغنم المسلمون في هذه المعركة التاريخية غنائم لم يسبق مثلها قط في تاريخ المغرب، وأكسبت المغرب في ذلك الوقت هيبة عظيمة أرهبت الأوروبيين الطامعين في احتلال المغرب. يتبع في العدد المقبل.. —————————– 1. المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، 1/131-132. 2. إحياء علوم الدين، 4/422. 3. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، 3/1194. 4. الاستقصا، للناصري، 2/279. 5. نفسه، 2/269–270. 6. نفسه، 3/270 7. نفسه، 3/277. 8. نفسه، 3/278. 9. نفسه، 3/278–279. 10. مرآة المحاسن، للإمام أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري، 147. 11. الاستقصا، 3/279.