تعد عائلة أبي المحاسن الفاسي من البيوتات الشهيرة في تاريخ المغرب، وكان أصل شهرتها التجارة والتصوف، وقد غلبت التجارة في البدء على التصوف، ثم صار التصوف هو الغالب، طيلة (القرنين 10 و11ه / 16 و17م). ورغم ما يوحي به هذا التقديم من إيحاءات دالة على الصلاح والزهد والتقشف، وما يرتبط بهما عادة، من شتى النعوت المشيرة إلى نبذ الدنيا والزعامة فيها، فقد كانت الفترة التي نشط فيها التصوف في تاريخ هذه العائلة هي أكثر فترات التنافس بين أفرادها حول الزعامة فيها، وقد بلغ التنافس أحيانا مستوى القطيعة بينهم، بل تعدى ذلك إلى التقليل من شأن صلاح بعضهم البعض، وقد بان هذا الصراع واضحا في بعض كتابات مثقفي هذه العائلة، على الرغم مما بذله بعضهم الآخر من جهد لإخفائه. 1. مصادر الزعامة يرجع الفضل في علو شأن هذه العائلة الفاسية إلى الشيخ أبي المحاسن يوسف بن محمد الفهري نسبا، الأندلسي أصلا، القصري ولادة ومنشأ، الفاسي لقبا ودارا ووفاة ومزارا. ازداد هذا الرجل بمدينة القصر الكبير، مأوى أبيه وجده، (سنة 937 ه/1530م)، في أسرة ميسورة الحال، إذ كان والده، وكذا جده أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن من مشاهير تجار مدينتي فاسوالقصر الكبير[1]. ومن جهة أخرى، اشتهر الوالد والجد معا، بعلمهما وتصوفهما؛ فالأول منهما كان من كبار أصحاب مؤسس الطريقة الزروقية، أبي العباس أحمد زروق[2]، بينما انتسب الثاني إلى الطائفة الجزولية[3]. وقد كان لهذا الثراء المادي والروحي انعكاسهما على حياة أبي المحاسن، ولاسيما فيما يتعلق بحياته التعليمية، وشاهد ذلك حفظه للقرآن الكريم، وما يرتبط به من متون وفنون، وهو لا يزال بعد صبيا، ثم انخراطه في سلك الطريق الصوفي، وهو لم يتجاوز بعد مرحلة الدراسة في الكتاب[4]. ومرد ذلك، كما يبدو، إلى العناية الفائقة والاهتمام البالغ الذي خصه به والده، وكذا أساتذة القصر الكبير في العلم الظاهر، وشيوخه في التربية الصوفية، وكان على رأس هؤلاء جميعا كبير أولياء تلك المدينة، بل منطقة الغرب برمتها، الشيخ عبد الرحمن المجذوب (ت ليلة عيد الضحى 976 ه /1569م)، حتى إن هذا الأخير تعود أن يكلف نفسه مشقة المجيء إلى المكتب الذي يدرس به أبو المحاسن الفاسي، فيظل "يراقبه ويحوم عليه"[5]، ويقول: "سبقتُ إليه قبل أن يأتيه غيري.. "، مبررا اهتمامه به بما توسمه فيه من الخير[6]. كما لقي أبو المحاسن عناية مماثلة في رحلاته العلمية خارج القصر الكبير، مما مكنه من زيارة أشهر الزوايا والمعاهد العلمية، ولقاء كبار علماء الشريعة، ومشاهير شيوخ الحقيقة والعرفان في شتى أنحاء المغرب[7]، ولاسيما في مدينة فاس، التي تعد الدار الثانية لوالده[8]. وكان أكثر من لازم من العلماء هو أبو عبد الله محمد ابن جلال التلمساني (ت 981ه / 1574 م). أما أكثر من خدم من الصوفية فهو الشيخ المجذوب الملامتي عبد الرحمن المجذوب[9]، وإذا علمنا أن ابن جلال، وهو راشدي النحلة[10]، لا يختلف في تصوفه، من حيث المشرب، عن نحلة عبد الرحمن المجذوب التي شب عليها أبو المحاسن، أدركنا أن هذا الأخير قد استهواه كثيرا لون معين من التصوف، حتى ليقال إنه أنفق في خدمة عبد الرحمن المجذوب جميع ما ورثه عن والده من أموال[11]. وفي المقابل، حصل أبو المحاسن على علم غزير في فرعيه الظاهر والباطن، وغدا "إماما فيهما معا.. من دون منازع[12]، حتى إنه آنس من نفسه الرغبة في مغادرة هامش كالقصر الكبير للاستقرار في فاس العاصمة، ويبدو أن اعتزازه بكفاءته كان في محله، يفسر ذلك الترحيب الذي لقيه في الحضرة الفاسية من لدن علماء الشريعة، ورجال التصوف، بمختلف مشاربهم، سالكين ومجاذيب وبهاليل، اعترافا له بعلو مقامه[13]. وقد هيأ له هذا الانتقال من الهامش إلى المركز الفرصة كي يلعب أدوارا أساسية في فاس وفي سائر بلاد المغرب، في مختلف مناحي الحياة ، ولاسيما على المستوى العلمي عموما والصوفي على الخصوص[14]، فاشتهر أمره، وكثر طلاب الدخول في الطريق على يديه[15]. كما بسطت له الدنيا، وذاع صيت زاويته الفاسية وطائفتها، وغدا قطب أولياء زمانه على الإطلاق، إلى أن أدركه الهرم فالموت، (يوم 18 ربيع الأول 1013 ه / 1604م)[16]، مخلفا إرثا روحيا عظيما، وماديا لا يقل أهمية، ما في ذلك أدنى شك، ويهمنا في هذا العرض أن نعرف خليفة هذا الرجل أو خلفاءه على رأس هذا الإرث العظيم.. يتبع في العدد المقبل.. ----------------------------------- 1. راجع مثلا: العربي الفاسي، مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، طبعة حجرية بفاس، 1324ه، ص: 142- 147. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع في ذكر الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع، طبعة حجرية بفاس، 1313ه، ص: 121، 142-147. هذا، وينسب أبو المحاسن الفاسي إلى عائلة عربية، ينتهي نسبها إلى فهر، ثم عدي، ثم سعيد بن يزيد. نزل فرع منها ببلاد الأندلس، حيث عرف أبناء هذا الفرع بآل ابن الجد الفهري، وكان أول نزول أسرة بني الجد بمدينة لبلة من عمل اشبيلية، ثم انتقل أكثرهم إلى مالقة، وبعضهم إلى اشبيلية، وحينما استولى المسيحيون على هذه الأخيرة، (سنة 646ه/1248م)، انضم الفريق الذي كان بها من بني الجد إلى إخوانهم بمالقة، وكان أشهر رجالهم في (القرن الخامس الهجري/11م)، الإمام العالم أبو بكر بن الجد، الذي بعثه علماء الأندلس إلى يوسف بن تاشفين، مستغيثين به، أيام ملوك الطوائف. ولما اشتد الضغط المسيحي، إبان حروب الاسترداد، قرر اثنان من أفراد عائلة بني الجد، وهما الأخوان أبو زيد عبد الرحمن، وأبو العباس أحمد، ابنا أبي بكر بن الجد، الهجرة إلى فاس، وكان ذلك حوالي (880ه / 75-1476م)، وقد نزل الأخوان في حومة الشناكين المعروفة، الآن، بالشرابليين من عدوة فاس القرويين، واحترفا بعمل الشمع المسبوك، فجرى عليهما لفظ الشماع، أولعله جرى على أهلهما ببلدهم في الأندلس. وفي (سنة 887 ه /1482م)، توفي الأخوان القادمان، وأولادهما جميعا بالطاعون، سوى أبي الحجاج يوسف بن محمد بن عبد الرحمن، جد أبي المحاسن يوسف، وقد ربي أبو الحجاج في حجر أمه بفاس، واحترف العمل التجاري، وصار يتنقل بين فاسوالقصر الكبير، فكان يدعى بالقصر باسم الفاسي، وفي فاس باسم القصري، إلى أن استقر به المطاف في القصر الكبير، وفي هذه المدينة تزوج، واستوطن بقية عمره، إلى أن توفي في حدود (920/1514م)، ودفن في الزاوية داخل القصر، مخلفا ولدين هما: محمد وأحمد، ومحمد هذا، هو والد أبي المحاسن، وقد نشأ في القصر الكبير، وكان تاجرا مثل والده، ومن الصوفية أيضا مثله. راجع المصادر نفسها. 2. م العربي الفاسي، مرآة المحاسن، مصدر سابق، ص: 8، 135-142. عبد الرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب بخبر أبي المحاسن وشيخه المجذوب، دراسة وتحقيق حفيظة الدازي، رسالة جامعية في التاريخ، مرقونة،91 /1992م، خزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص: 358. 3. العربي الفاسي، مرآة المحاسن، مصدر سابق، ص: 135-142. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 124. عبد الرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب، مصدر سابق، ص: 357-358. 4. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 119-124. عبدالرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب، مصدر سابق، ص: 181. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس، طبعة حجرية بفاس، 1318ه، ج: 2، ص: 307. 5. المصادر نفسها. 6. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 119. 7. يلاحظ من خلال أسماء شيوخ الزوايا الذين أخذ عنهم، أنه لم يقتصر على زوايا الشمال المغربي، بل زار أيضا زوايا مراكش وعبدة ومكناس. راجع: م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 124. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس، مصدر سابق، ج: 2، ص: 307-309. 8. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس، مصدر سابق، ج: 2، ص: 307-308. 9. المصدر نفسه. 10. راجع: عبد الله نجمي، من تاريخ التصوف المغربي: طائفة العكاكزة، رسالة جامعية في التاريخ، مرقونة،(1407ه/1986م)، خزانة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص: 233-237. 11. عبد الرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب، مصدر سابق، ص: 182. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 121. 12. عبد الرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب، مصدر سابق، ص: 189. 13. عن نزوله بفاس وردود فعل علمائها وأوليائها، راجع: م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 119-122-126-127. عبد الرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب، مصدر سابق، ص: 183. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس، مصدر سابق، ج: 1، ص: 339– ج، 2، ص: 310. حدث انتقاله إلى فاس في 18 ربيع الأول (سنة 988ه / 1576م)، في أعقاب معركة وادي المخازن، وقد نزل في حومة العيون، ثم انتقل في عامه إلى حي المخفية بعدوة الأندلس، فسكن بها بدار في أقصى الدرب الجديد، فكان يسكن بأعلاها ويصلي ويجتمع بأتباعه في أسفلها، ثم اشترى دارا مجاورة لها، فانتقل الناس إليها، وأول صلاة صلوا فيها ظهر يوم الاثنين أول يوم من شهر رمضان عام 1003ه/1595م، ثم شرع في تأسيس المسجد بها، يوم الأحد خامس شوال (سنة 1004ه/1596م)، إلى أن أتمه، وأول صلاة صليت فيه ظهر يوم الأحد تاسع ذي الحجة متم (1004ه/1596م)، ورتب فيه إماما ولده أبا العباس أحمد، وخلصت الأولى للسكنى. راجع: م. العربي الفاسي، مرآة المحاسن، مصدر سابق، ص: 43. م. عبد الرحمن الفاسي، ابتهاج القلوب، مصدر سابق، ص: 183. 14. من أبرز إسهامات أبي المحاسن الفاسي في المجال السياسي والعسكري، قيادته لمتطوعة فاس، قبل أن يستقر بها، في معركة وادي المخازن، إلى جانب جيش عبد الملك المعتصم السعدي، وتدخله لإقناع الأمير محمد الشيخ المامون بالتراجع عن ثورته ضد والده أحمد المنصور.راجع: م. العربي الفاسي، مرآة المحاسن، مصدر سابق، ص: 29،137. 15. عبد الحفيظ الفاسي، الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب، م.خ.ع، رقم: 4400 د، ص: 59. م. بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس، مصدر سابق، ج: 2، ص: 310. 16. م. المهدي الفاسي، ممتع الأسماع، مصدر سابق، ص: 127، 128.