محمد وقيدي وضع الإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلارGaston Bachelard(1884-1962) مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في إطار تصوره لتاريخ العلوم الذي كان يعارض به النظرة الاستمرارية لذلك التاريخ. وقد قدم باشلار تصورا انقطاعيا عن تاريخ العلوم فكرته الأساسية هي أن العلوم لاتتطور بالكيفية التي تسمح باستنباط النظريات الجديدة من التاريخ السابق لها في مجالها، ولافهمها في جميع الأحوال في ضوء النظريات السابقة. فليس في تاريخ العلوم استمرار مظهره الانتقال في التطور من نظريات إلى التي تليها فحسب، بل فيه أيضا مظاهر قفزات كيفية وثورات معرفية لايكون فيها الجديد دائما استمرارا لما سبقه، وهذه هي المظاهر التي اقترح باشلار من أجل فهمها مفهوم القطيعة الإبستمولوجية. حدد باشلار مستويين تظهر فيهما القطيعة الإبستمولوجية: بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية، من جهة، قم مع ظهور أنساق علمية فيها مظاهر جدة تراجع مبادئ مفاهيم العلم السابق من جهة أخرى. 1- ناقش باشلار دلائل دعاة الاستمرارية بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة. فهم يرون أن المعرفة العلمية منبثقة عن المعرفة العامة التي يبحثون فيهاعن أصول للأفكار العلمية. لاتمنع درجة التجريد والعمومية في المعرفة العلمية، في نظرهم، من إمكانية العودة بها إلى جذورها في المعرفة العامة. لكن باشلار يذهب في اتجاه مضاد لهذا الرأي مؤكدا أن التطورات التي عرفتها المعرفة العلمية، في القرنين التاسع عشر والعشرين بصفة خاصة، جعلتها تتكون، بقدر ابتعادها عن المعرفة العامة والقطيعة معها. فالمصباح الكهربائي لايمكن فهمه انطلاقا من المصباح العادي، مع أن المشترك بينهما صدور النور عنهما، لأنه اكتشاف علمي جديد لاعلاقة له بالمصباح العادي. والقطيعة بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية شاملة لأنها تأسيس للمعرفة العلمية ذاتها، ولأن المعرفة العلمية بماعرفته من تطورات ابتعدت بصورة تامة عن أن تكون استمرارا للمعرفة العامة أو استنباطا منها. 2- المستوى الثاني للقطيعة الإبستمولوجية يتم داخل تطور المعرفة العلمية ذاتها، وذلك بفضل اكتشافات علمية جديدة تكون منطلقا لأنساق علمية جديدة وأساسا لمراجعة الفكر العلمي لبعض المفاهيم التي كان يعتمدها في فهم الظواهر التي يدرسها. وفي نظر باشلار، فإن فهم النظريات العلمية الجديدة في إطار التصور الاستمراري لتاريخ العلوم يحجب عن المحلل عناصر الجدة فيها. عرفت العلوم الرياضية منذ القرن التاسع عشر ظهور أنساق هندسية لاأوقليدية، وعرفت العلوم الفيزيائية ظهور أنساق فيزيائية غير النسق النيوتوني. وهناك داخل هذه التطورات الكبرى اكتشافات علمية دعت العقل إلى مراجعة مفاهيم ومبادئ كانت تؤخذ على أنها من ثوابته مثل مفاهيم المكان والزمان والسرعة وطبيعة المادة والحتمية في قوانين الاشياء، بل ومفهوم العقل ذاته. عبر باشلاربمفهوم القطيعة الإبستمولوجية عن مظاهر الجدة في النظريات العلمية التي بدأت نشأتها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهكذا، فإن الأنساق اللاأوقليدية ليست مستنبطة من النسق الأوقليدي لأنها تأسست على مصادرات مختلفة عن مصادرة التوازي الأوقليدية، ولأن لها نتائج مختلفة بحيث لايكون مجموع زوايا المثلث فيها معادلا لمجموع زاويتين قائمتين كما هو الشأن عند أوقليد. أما بالنسبة للفيزياء فإن النظريات الجديدة لايمكن استنباطها مما سبقها لأن لها قيمة استقرائية لكونها قامت على أساس ملاحظة ظواهر جديدة لم يسبق للفكر العلمي السابق ملاحظتها. من جهة أخرى، فإن ميزة الأنساق العلمية الجديدة، في الرياضيات كما في العلوم الفيزيائية، لاتقوم بإلغاء الأنساق القديمة، بل تكتفي ببيان حدودها. فالنسق الأوقليدي يظل قائما لينضاف إليه نسقا ريمن ولوباتشفسكي اللذين يقومان على أساس تصورين جديدين للمكان، وكذلك فإن الميكانيكا النيوتونية تظل قائمة في حدود أن قوانينها نسبية تتعلق بالأجسام ذات السرعة الأدنى من سرعة الضوء، في حين أن الميكانيكا النسبية تتعلق بالأجسام ذات السرعة والضوئية. وأما من جهة الميكروفيزياء، فإنها تضيف إلى قوانين الميكانيكا النيوتونية قوانين تتعلق بالأجسام الدقيقة غير المرئية في الملاحظة المباشرة. وهكذا، فإن القطيعة الإبستمولوجية تعني الانتقال نحو فكر علمي أشمل وأكثر انفتاحا يعمل بأكثر من نسق واحد، أي مع بقاء الأنساق السابقة محتواة ضمن فكر علمي جديد. إذا كان باشلار قد بلور مفهوم القطيعة الإبستمولوجية انطلاقا من تفكيره في واقع العلوم الرياضية والفيزيائية، فإن إجرائية هذا المفهوم اغتنت واتسعت بالتطبيقات التي قام بها بعض الباحثين في مجالات أخرى هي تاريخ العلوم الإنسانية وتاريخ الأفكار بصفة عامة."