المسائية العربية مهما تحدّثنا عن أهمية الإبداع الذاتي أو الاستقلال الفكري، ومضينا في طريق تنمية القدرات الذاتية، وبحثنا لأنفسنا عن هوية خاصة نباهي بها غيرنا، فلا نتيجة فعلية يمكن أن نحققها في ذلك كله لو تجاهلنا حتمية الانفتاح على العالم من حولنا، وضرورة معرفة أسرار تقدمه، والأخذ من منجزات هذا التقدم ما يدفعنا إلى الأمام، وينقلنا من واقع الضرورة إلى أفق الحرية، ومن وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، يفرض علينا ذلك أن الوعي بالهوية وعي بالغيرية، وأن حضور الآخر المتقدم بعض مكونات وعي الأنا التي تسعى إلى مجاوزة ما عليه من تخلّف، وأن مجاوزة التخلف لا يمكن أن تتحقق بالعزلة أو الانغلاق أو الخوف أو الجمود، وإنما بالانفتاح على الغير، والحوار مع الآخر، والتفاعل مع كل ما يثري الإبداع الذاتي. التناص بحكم طبيعته، لا يعرف حدوداً، فهو يعبر الحواجز الفاصلة بين فصائل المعرفة المختلفة، فكما يمكن أن تتناص وثيقة في علم الوراثة مع وثيقة في علم اللغة، يمكنها أيضا أن ترتبط بعلاقة ما مع وثيقة ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو تاريخي، والأمر كذلك كيف لنصوصنا العربية أن تتناص مع غيرها ونحن مازلنا أسرى التخصص الضيق مشتتين بين ثقافة الإنسانيات وثقافة الطبيعيات، وبين فكر المشرق وفكر المغرب، ناهيك عن المتاريس المعرفية التي تقيمها بعض مدارس الفكر العربية في وجه الفكر المناهض لها ؟ ؟ إن ثقافة الإنترنت –مثلا- تفرض علينا أن ننظر بصورة أشمل لخريطة الفكر الإنساني، وأن ندرك مغزى انهيار الحواجز التي كانت تفصل فيما مضى بين فروع المعرفة المختلفة واحداً وراء الآخر. لسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن شق الاستقبال في إشكالية الإفراط المعلوماتي هو أكثر صعوبة سواء من الناحية النظرية أو العملية ، وهو بلاشك ، أكثر أهمية لكوننا حالياً مستهلكين للمعرفة أكثر من كوننا منتجين لها. إن استقبال المعلومات من خلال الإنترنت أبعد ما يكون عن طابع التلقي السلبي، فهو عملية تفاعلية تحتاج إلى تدريب وممارسة ومتابعة، ونحيل الرفاق المهتمين هنا إلى كمّ البحوث الهائل عن النواحي الفنية والتربوية والنفسية التي تسعى لإلقاء الضوء على ثالوث (استقبال المعلومات)، ونقصد به: مهارات البحث، وقدرة الاستيعاب، وتوظيف المعرفة. إن البحث داخل النصوص يتطلب وسائل لغوية ومعجمية عدة لكي ننفذ إلى جوهر مضمونها بواسطة مداخل من رؤوس الموضوعات المرتبة في سلاميم ( أو سلميات ) شجرية تقسم الأصل إلى فروع والفروع إلى (فريعات) انتهاء بالأوراق. وكمثال مبسّط على ذلك يمكن تقسيم علم اللغة (الأصل) إلى فروع الصوتيات والصرف والنحو والدلالة ...، ثم يقسم فرع الصرف مثلا إلى فريع الاشتقاق وفريع التصريف ليوزع بعد ذلك فريع الاشتقاق أوراقاً بين الاشتقاق الأكبر، والاشتقاق الأصغر، والاشتقاق العكسي... المشكلة أن سلميات رؤوس الموضوعات تلك قد تم وضعها وفقا لمعايير الفكر الغربي سواء من حيث رؤيته الفكرية أو اهتماماته العملية، وهو ما يحتاج من الباحثين الناطقين بالعربية إلى مزيد من الجهد لإضفاء الصبغة العربية على هذه الموارد المعلوماتية الأساسية. إن علينا أن نحسن استغلالنا لمواردنا الذهنية، واستخدامنا لحواسنا بأن نعطي كل نص ما يستحقه من مستوى القراءة وفقاً لطبيعته، والغرض من قراءته، ولاشك في أن قراءة النصوص العربية مازالت تحتاج إلى الكثير من البحوث في مجال علم النفس اللغوي والتربوي حتى تتضح لنا الأسرار الخفية لهذه العملية الذهنية الأساسية التي اعتدنا أن نأخذها كقضية مسلمة، ولم يعد مقبولاً أن نظل مخدوعين بمقولات أخّاذة من قبيل: (إن النص العربي يفهم ليقرأ) فما أبعدها تلك المقولة عن الصحة العلمية والمنطقية !.. فهل يمكن لعجينة العقل الرمادية أن تحيل هذه المعلومات إلى معرفة حقيقية، وأن تقطر هذه المعرفة وتسمو بها إلى مستوى الحكمة ذات البصيرة النافذة ؟!.. هل يمكن لك ذلك، أم أنك أيها العقل ستظل مكبّلاً بقيود من مواردك العضوية وبنيتك التشريحية وأدواتك المعرفية وقدراتك الوظيفية؟!..