الشريف ايت البشير- الصويرة. إن العمل الذي تقدمه الشاعرة المغربية علية الإدريسي من خلال (حانة..لو يأتيها النبيذ) هو عمل يخلق للمتلقي منزعا للتلذذ الشعري من خلال الاستيهام الذي يوفره،مما يفرض عليه بذل مجهود مضاعف لترويض العبارة والتقليل من جموحها.وذلك من خلال العناصر التالية: إن الموضوعات (الطيمات) التي تستأثر باهتمام متخيل هذا العمل هي: الصمت،العزلة،التأمل،الغياب،الموت،الحلم،الحضور،النبيذ،الاغتراب،الجسد،الهروب،العشق،العري،اللغة،الرحيل،الحزن،النسيان،الضياع،عنف الوجود،والشهوة.وهي موضوعات تتوزع بين منزعين فلسفيين حفرا أخاديد في وعي الإنسان المعاصر وإدراكه للوجود.يتعلق الأول بالنزعة الوجودية كما نظر لها وأبدع فيها كل من سارتر وألبيركامو...أما الثاني فيرتبط بالنزعة الفلسفية المتاخمة لما هو مختلف ولما هو تفكيكي.إذ أن موضوعات مثل العزلة والصمت والموت والجسد...وما يصب في مجراها استأثرت باهتمام " جيل دولوز" وعلى وجه الأخص " موريس بلونشو" في عمليه الرائعين:"le livre avenir "و"l'espacelittéraire"... وقبلهما " ميرلويونتي". وهو منزع لا يدع مجالا للشك في أن الشاعرة علية الإدريسي تقف موقفا قلقا من الوجود فيه إفراط حساسية استشكال مواضيع القصيدة والعمل على توريط القارئ بغية تفكيرها. كما يؤكد حداثة نصها الشعري لما يحوزه من انفتاح ومن " بوليسيمية"... مادامت مواضيعها تستأثر باهتمامالإنسان المعاصر بغض النظر عن نزوعاته الخاصة وعن مشاربه وعن رؤاه المنحازة إلى لون قيمي محدد.إنها طيمات تكلف بالوضع البشري تحديدا. يستبد التعبير الاستعاري في عبارة علية الإدريسي الشعرية،وهي استعارة لاتكترث بطبيعة حديها فهي تمزج بين الحسي المدموغ بحساسية تجريبية ذات نزعة " هيومية".وبين المجرد من شأن ذلك أن يكسبها خاصية" باطوسية".تجعل الإحساس الرقيق بالعالم فادح،وكأنها الشاعرة التي لا تخلق مسافة مع وجودها.وإنما تحمله في الكيان،تحمله على العاتق. من ثم كان إحساسها بفجيعة الذات تجاه الوجود نابعا من الكيان.وإن كتابتها هي تجلي للآهات وللعذابات تذكرنا بحالة الشاعر العباسي الفذ:بشار بن برد حينما يقول: وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها نفسي تذوب فتقطر حيث هي هنا تلغز العناصر وتغمضها في عملية استبدالية رمزية.الشيء الذي يجعل التصوير الشعري مشبعا بالرمزية الأخاذة بين الكأس/النبيذ والجسد والشعر/الكتابة.لوجود علاقة استصداء وتداخل وحضور كل منهما في الآخر في إطار البحث عن أثر في الوجود أساسه الهفهفة والحفيف. إن العلاقة المشتركة بين هذه العناصر هي الاشتهاء والإقامة والإحساس بماء الحياة ودفئها. فنحن نستحم في النبيذ وفي الجسد وفي الشعر ونأوي إليها من عوادي الزمن.بل نتخذها سكنا من أجل إطالة الإقامة على إيقاع الاشتهاء. بالعودة إلى التقسيم وإلى عنونة قصائد الديوان وبالنظر إلى صيغة: ( عندما تبكي الشمس (صيغة أولى)).وصيغة (عندما تبكي ..(صيغة أخرى)) في آخر الديوان وما بينهما. يتضح بأن الشاعرة علية الإدريسي تكلف على مستوى البنية بالتفكير الأرسطي من جهة حيث البدء والوسط والنهاية العلاقة بينهما سببية.كما تكلف بالكتابة الجمالية للمسرح حيث أولا البرولوغ والعرض ثم الإيبلوغ من شأنها أن تدفع المتلقي إلى الاغتسالو إلى االتطهير (=الكاطارسيس).هنا يكون الاغتسال بالشعر.كما أنها تكلف بالكتابة الصوفية خصوصا مع النفري صاحب المواقف الذي استصداه جبران في مواعظه:هكذا فالقصيدة الأولى وصف ومراكمة للصور وللحالات في حالة من التعب لعناصر الوجود محكومة بالعود الأبدي وبالتداخل واستبدال المواقع بين النبيذ و الشمس. أما القصيدة الأخيرة فهي تحمل الغد كما تحمل الوعد كما تبشر بالغلال.إنها القصيدة وغيرها التي تجعل الشاعرة "مستقبلية"بالمعنى الروسي للمفهوم.كما أنها قصيدة تطرحها في إطار الأعمال العالمية الفذة التي استأثر الحلم باهتمامها كما فعل بورخيس مثلا.الذي كان يكتب أحلامه أي استيهاماته. فالحلم هو انفلات للمكبوت. وهو قول اللاينقال والمحارب من قبل الدوكسا.وبالتالي فالحلم هو التحويل الرمزي للرغبة المكبوتة في اللاشعور. وعليه فإن المنزع الشعري العام لنص علية الإدريسي هو الذات التي تكون منطلقه ومنتهاه. وعبرهما تتناسل الأنوات لتصبح"إشاريات"- deictique- ..تحقق إطلاقية الدليل بما لا يدع مجالا للشك. إن الاستعارات التي يحتمي بها ديوان ( حانة.. لو يأتيها النبيذ) تعتبر عاهلة في الصورة والخيال الشعريين،والمأهولة بالرقة والإحساس الحالم بالوجود ودعوة الذات إلىتوريطها في "إتيانه" بالمعنى الإيروتيكي للكلمة والذي يذكرنا بالإحساس الذي انتاب بطل رواية(عزازيل)حينما لامسه الماء في البحر بعد مدة آلف فيها الجسد أسمال الدير وانغلاقه.أو هو الإحساس ذاته لأحد أبطال (رجال في الشمس) حينما ألقى بنفسه على الشط ليشتم من الأرض رائحة زوجته إياها وقد اغتسلت للتو في الحمام. تقول علية الإدريسي: ( يلاقي الكاس فصوله) ص 9. أليست دعوة مبطنة،في لاوعيها تمثل رائع لمقولة ريكه: ( كل حياة جديرة بأن تعاش)، حيث تبدل الحياة يترجم بالفصول.ويترجم أيضا باستحمام هيرقليطس ( إنك لا تستطيع أن تستحم في النهر مرتين). كأس علية الإدريسي ( يخلع عنه القامة/يشم عناقيدفراشه/في أقبية/تنفش العهد ساعة الإمارة) وكأنها حالة من الوضوح وأخرى من الاغتباق تفسر بغموض شديد في إطار النزعة الهيدونية حيث تمجيد الكأس والجسد،سيان و مدحهما. ليتوضح"ريلكه"أكثر في قولها: ( فليشرب كل واحد منكم/كأسا)ص 14. أو قولها: ( قال: أنت عاشقة...حذار/قلت: ذاك كأس لنسيان الغد/فدعني أعيش يوما عذبا/ولو كذبا). ص20.تجمل الاستعارة وتكمل في تعبيريتها في محطات متعددة تنتشر على جسد القول لترصعه بالمتخيل والمستلذ: (صب الكأس أوجاعه/في طست الأحزان) ص 85. (يكتحل بها النسيان) ص 86. هي استعارات تحتمي بقول ناجز في العبارة يستصدي الاستعارات الأصلية كما هي معروفة لدى الشعراء الافذاذ لبورخيس مثل كيتس وويتمان...أسلاف علية الإدريسي هم الشعراء المؤسسون والأصيلون مثل المتنبي وبشار والبحتري...وقبلهما طرفة وزهير...أسلاف الشاعرة هم أعلام العراق بمن فيهم المتصوفة كالحلاجفي: ( قالت:لم تأت/إلا لأراك تراني).ص 81 و كذلك النفري...بعد ذلك السياب البياتي.سعدي يوسف.حسب الشيخ جعفر.عبد الخالقكيطان ...مدركة بأن الشعر العربي لاسماء له إلا المرجعية العراقية،تماما كما آمن محمود درويش حينما قال:( فكن عراقيا كي تكون شاعرا ياصاحبي). تطالعنا الشاعرة" علية الإدريسي" بالعلامة/ الإيقون على ظهر الغلاف. إنه الدال الذي يتحد بمرجعه مع قصدية في "الوضعة" وفي"النظرة".حيثها تتوشى بوشاح شفاف يحاكي في انسداله على الجانبين هفهفة القصيدة الرائعة على الروح. كأنها البتولا أو "بوتو"حيث الوشاح يلعب دور البينونة ما بين حدي التقليد والحداثة.أما النظرة فهي محملة بالدهشة وباللايحد وبالحيرة الوجوديةنحو إقرار حالة من النزعة المستقبلية المضمخة ببروميثيوسية ترمز الى أن الذات منذورة للبذل والتضحية في سبيل سعادة البشرية...إنها نظرة رواقية أخاذة.وبتوصيف مغربي يحفر فيما هو أنتربولوجي نقول بأن وجه علية الإدريسي يمنح نفسه للمتلقي وقد أعلن بأن صاحبته مسكونة "بالحال" في ذاتها "يرقد السكن" هو الشعر. أما إيقون الوجه فهو ذاته الوجه .. ملفعا "بالزحزحة" بالمعنى الذي يطرحه ديريد. زحزحةمن المشابهة والمطابقة مع المرجع.وربما من الدلالة الحافة الى المجرد،ليصبح الوجه بآعتباره جزءا من الذات وفي ملكية المتلقي بمثابة الضمير الذي يطرح في الشعر بمفهوم الإشاريات... أي التي تشير ولا تشير ..،حتى يكون كل متلقي مورطا في الدال يوصله بذاته.ويجد فيه التعبير عن همومه الخاصة .لا بد أن يكون الوجه الذي خطه الفنان سليمان حسني وصممه عبد الخالق ازبيدة هو تماما الوجه الذي فكره اللتواني ليفيناس.وأن يكون الوجه الهلامي كضمائر محمود درويش التي تصبح أفخاخا لكل التلقيات تفجرها من داخل القول الشعري:( أنا أحمد العربي).