لم تمض بضع ساعات على صدور قرار المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب القاضي بمواصلة الأشكال التعبيرية المطالبة باستقلالية السلطة القضائية والشروع في خوض أشكال احتجاجية جديدة، حتى فاجئ وزير العدل والحريات الرأي العام عموما والجسم القضائي على وجه الخصوص بتصريحات نارية وغير مسبوقة لم يتوانى فيها على استعمال أسلوب التهديد الموجه لكافة مكونات السلطة القضائية في سابقة جديدة تنضاف إلى سجل الخرجات الاعلامية الموجهة من طرف وزارة العدل والحريات في عهدها الجديد نحو القضاة والجمعية المهنية التي اختاروا الانخراط فيها وهي نادي قضاة المغرب. واللافت في هذه التصريحات الجديدة أنها تأتي كاستجابة ورد فعل سريع غير معهود من وزارة العدل اتجاه أنشطة نادي قضاة المغرب وبياناته إذ لا يمكن في هذا المجال أن ننسى أن نادي قضاة المغرب سبق وأن راسل وزارة العدل والحريات بخصوص عدة قضايا آنية تهم السلطة القضائية ولم يتلقى أي جواب، إلا أن الوزير في هذه المرة وعلى غير عادته لم يتأخر في الرد عن قرار المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب المنعقد في دورة استثنائية يوم السبت 09/06/2012. لقد اعتبر السيد وزير العدل في تصريحاته المنشورة بجريدة أخبار اليوم بتاريخ يومه 11 يونيو 2012 أن القضاة لم يفوضوا لأحد التحدث باسمهم، ويبدو هذا التصريح غريبا وخارجا عن سياقه لكونه لا يعكس رأي القضاة خاصة إذا علمنا أن وزير العدل وبصفته الدستورية لا يمثل القضاة وإنما يمثل السلطة التنفيذية، وليس من المقبول أن يتحدث نيابة عن القضاة أو يعمل على مصادرة آرائهم، في وقت اعترف فيه الدستور الجديد للقضاة بحقهم في التعبير الحر وفي تأسيس جمعيات مهنية. وكجواب عن الموقف الذي عبر عنه السيد وزير العدل والحريات بهذا الخصوص يمكن القول إن رأي القضاة كان واضحا يوم السبت 05/05/2012 عندما استجابوا لدعوة نادي قضاة المغرب التي وجهها لهم لحضور مجلسه الوطني، وتوافدوا بكثافة لهذا الغرض، مع العلم بأن جدول أعمال اللقاء المعلن عنه كان يتضمن نقطة فريدة وهي تدارس أشكال الاحتجاج. وهو ما يعني أن القضاة الحاضرين والذين تجاوز عددهم 2000 قاض متفقون على وجوب الاحتجاج من حيث المبدأ وهو نفس الموقف الذي عبروا عنه من جديد عند الاعلان عن الاشكال الاحتجاجية التي قررها النادي حيث انخرطوا في تنفيذها بكثافة ولا أدل على ذلك من الصور التي تناقلتها وسائل الاعلام الوطنية والدولية لقضاة من مختلف ربوع المملكة وهم يحملون الشارة مرتدين بدلاتهم الرسمية، كأسلوب احتجاجي أولي نفذه قضاة ومستشارون ومسؤولون قضائيون بل وحتى القضاة الملحقون بالإدارة المركزية. إذ من الاجحاف مصادرة رأي هذه الفئات الواسعة والقول بأن قضاة المملكة لم يفوضوا لأحد مهمة الحديث بالنيابة عنهم، خاصة إذا علمنا أن أغلب القضاة الذين نفذوا أشكال الاحتجاج السابقة اختاروا نادي قضاة المغرب كجمعية مهنية تمثلهم وتتولى الدفاع عنهم بالشكل المحدد في قانونها الأساسي. من جهة أخرى حملت تصريحات الوزير تهديدا واضحا للقضاة من أي محاولة منهم للإخلال بسير مرفق العدالة حيث اعتبر قيام القضاة ب " تمديد أجل النطق بالأحكام أو عدم توقيعها تصعيدا خطيرا وغير مقبول وغير مبرر وسلوكا غريبا عن جهاز القضاء"، ومن الواضح من هذه التصريحات أن وزارة العدل التفتت أخيرا لاحتجاجات القضاة بعدما قلل وزير العدل نفسه في حوارات سابقة من أهميتها وتأثيرها، إذ لأول مرة يبدو أن الوزارة مهتمة بالمرحلة الجديدة من أشكال الاحتجاج التي سينفذها قضاة المملكة قريبا، وهي مرحلة ستشهد الانتقال من أشكال رمزية كحمل الشارة وتأخير الجلسات مدة 15 دقيقة، إلى أشكال أكثر تعبيرا مثل الحكم بغرامات موقوفة التنفيذ أو تمديد أجل النطق بالأحكام، ولا شك أن من أسباب هذا التحول تجاهل الحكومة للأشكال التعبيرية السابقة واستخفافها بها، لذا لا غرابة أن يعتبر نادي قضاة المغرب في بيانه الأخير الصادر عشية اجتماع مجلسه الوطني أنه "في حل من مسؤولية التعطيل المحتمل لخدمات المحاكم"، وتحميله "الجهات الحكومية المعنية بملفه المطلبي المسؤولية عن أي تعطيل قد يصيب مصالح المتقاضين بالمحاكم". بل وحتى باستحضار بعض التجارب الدولية في هذا الصدد يتأكد أن الحراك القضائي الذي تعرفه المملكة بفضل نادي قضاة المغرب هو جزء من حراك دولي شهدته وتشهده عدد من بلدان العالم اختار قضاتها خوض أشكال احتجاجية للمطالبة باستقلالية السلطة القضائية، ولجأوا في كثير من الأحيان إلى أشكال قد تؤدي أحيانا وفي حدود معينة إلى الاخلال بسير مرفق العدالة وبطرق أكثر قوة وتصعيدا من الأشكال التعبيرية التي أعلن عنها نادي قضاة المغرب خلال هذه المرحلة، فبفرنسا على سبيل المثال سبق للقضاة القيام بتعليق جلساتهم كرد فعل لتصريحات وصفت بأنها غير مسئولة صادرة عن رئيس الجمهورية، كما انخرطوا في وقت آخر في مسلسل احتجاجي قرروا فيه تعطيل الحكم بالغرامات ردا على تجاهل الحكومة لمطالبهم المشروعة في الزيادة في الأجور. وبتونس نفذ عدد كبير من القضاة وفي عهد الرئيس المخلوع سلسلة من الاضرابات للمناداة بضرورة تحسين ظروف عملهم وضمان استقلالية الجهاز وتحريره من وصاية السلطة التنفيدية. و كذلك الحال بالجزائر حيث باشر القضاة إضرابا جزئيا لمدة ثلاثة أيام على عهد الرئيس السابق ليمين زروال احتجاجا على تشكيك بعض الصحف في نزاهتهم. بل وحتى بالسودان مارس القضاة الحق في الإضراب في وقت مبكر مند سنة 1983 نتيجة رفض النظام الاستجابة لمطالبهم الإصلاحية، وهو اضراب استغرق مدة ثلاثة أشهر، انتهى بالاستجابة لمطالبهم. وبالقارة الإفريقية بادر قضاة دولة بوروندي إلى تنفيذ إضراب عن العمل لمدة شهر استجابة لنداء نقابتهم التي طالبت بتفعيل القانون الخاص بالقضاة وضمان استقلاليتهم. وعمل قضاة دولة السنغال إلى تأجيل الجلسات برمتها ودفعة واحدة إلى تاريخ لاحق، احتجاجا على التسويف الذي تعاملهم به الحكومة بخصوص ملفهم المطلبي. وفي اليمن أعلن القضاة أكثر من مرة عن تعليق كافة جلسات المحاكم وذلك كأسلوب للاحتجاج على ممارسات عديدة أهمها تكرار الاعتداءات التي يتعرض لها القضاة والاستخفاف بمكانة السلطة القضائية. وفي مصر قرر القضاة الاعتصام المفتوح داخل نواديهم، وذلك للمطالبة بتعديل قانون السلطة القضائية، ونقل تبعية التفتيش القضائي من وزارة العدل إلى مجلس القضاء الأعلى. وذلك قبل خوضهم للحق في الاضراب المكفول بمقتضى الاتفاقيات الدولية. وفي جميع هذه الأمثلة لم يخرج وزراء العدل في هذه الدول ليهددوا القضاة بإحالتهم على مجالس التأديب، بل بادروا إلى الجلوس معهم والتحاور معهم حتى في أكثر البلدان قمعا وتخلفا. ان لغة التهديد التي استعملها وزير العدل والحريات في أول خروج اعلامي له عقب انخراط قضاة المغرب في خوض أشكالهم الاحتجاجية تؤكد بشكل واضح أن الطريق نحو اصلاح منظومة العدالة ببلادنا لا يزال طويلا، ومن أسباب ذلك كون السلطة التنفيذية لا تتوانى على محاولة الاجهاز على كل مكتسبات القضاة التي أتى بها الدستور الجديد، فتجد وزارة العدل تصادر على القضاة حقهم في التعبير، ولا تتأخر في القيام بمحاولات التضييق على ممارستهم لحقهم في التجمع وتأسيس جمعيات مهنية كما هو الحال بالنسبة لنادي قضاة المغرب والمنع الذي لا يزال يطال أنشطته في وسائل الإعلام، فضلا عن إصرار وزير العدل على ممارسة كامل صلاحياته في المجلس الأعلى للقضاء وتحسره المعلن عن اخراجه من تشكيلته الجديدة. ولا شك أن هذه اللغة التي ما فتئت وزارة العدل تستعملها لن تكون الأنسب لإصلاح منظومة العدالة أو الاسهام في خلق سلطة قضائية مستقلة وقوية، وإنما هي استمرار لسياسات التعاطي السلبي للجهة المذكورة مع مطالب القضاة التي عبروا عنها من خلال جمعيتهم المهنية التي تمثلهم، سياسة تتسم بالتجاهل واللامبالاة، و عدم الجدية في فتح حوار قطاعي جاد ومسؤول، وهي نفس السياسة التي تراهن على تكريس هيمنة وتغول السلطة التنفيذية اتجاه القضاء. فهل تشكل هذه التصريحات الجديدة لوزير العدل والحريات بداية انتكاسة جديدة في مسلسل الربيع الحقوقي الذي تشهده بلادنا؟ أنس سعدون عضو نادي قضاة المغرب