لم يكن يوما يتصور أن القضاة المغاربة يمكن أن يجلسوا سوية من أجل اتخاذ قرار يهم الدفاع عن مصالحهم في ظل الدساتير السابقة ، لكن الحراك الاجتماعي الذي عرفه المغرب على غرار مجموعة من دول المنطقة عمل على تسريع تمتيع القضاة بحقهم في التعبير عن رأيهم بما يخدم مصالحهم . و في هذا السياق جاءت فكرة إنشاء نادي قضاة المغرب ، في إطار مقتضيات الدستور الجديد ، الذي خول للقضاة إمكانية إنشاء جمعية مهنية . و بالنظر لأصل الحق في إنشاء و تأسيس الجمعيات المهنية ؛ فإنه لا يمكن اعتباره مجسدا إلا في الإرادة الشعبية التي استفتت على الدستور نفسه بعد أن تم التوافق عليه من قبل المجتمع بكل مكوناته . لذلك فإن مسألة حق القضاة في تأسيس جمعيات مهنية هو حق أصيل مستمد من السيادة الشعبية التي ارتأت أن يدافع القضاة عن مطالبهم المهنية في إطار قانوني و تجاوز الوضعية الشاذة التي كان القضاة يتخبطون فيها باعتبارهم حراسا للحقوق و الحريات و هم أول من تنتهك حقوقهم و حرياتهم . و إذا كان القضاة قد استفادوا إلى أقصى الحدود من الإمكانيات الدستورية في ميدان التعبير عن الرأي، فإن ذلك تجسد في نادي قضاة المغرب الذي اتخذ منذ نشأته مجموعة من الخطوات استطاعت لحد تاريخه أن تثير انتباه المخاطب السياسي و المواطن على حد سواء. و في هذا السياق يمكن رصد مجموعة من المحطات التي اعتبرها الفكر الحقوقي نقطة انطلاقة جديدة للسلطة القضائية في إطار نوع من الصراع الاجتماعي حتى يتمكن القضاة من ممارسة صلاحياتهم كما هي محددة دستوريا لا كيف يتصورها السياسيون بما يخدم مصالحهم الضيقة . و لعل أبرز المحطات التي خاضها نادي قضاة المغرب تلك الوقفات الاحتجاجية التي عرفتها بعض محاكم المملكة على إثر سلسلة الهجمات المتناسقة التي استهدفت الجسم القضائي برمته في إطار حملة شبه منظمة يبدو أنها لفائدة جهات بعينها تريد قطع الطرق عن القضاة حتى لا يتمكنوا من ترسيخ سلطة قضائية عادلة قوية و نزيهة . كما أن من بين المحطات التي عملت على بلورة الموقف الواضح و الراسخ لنادي قضاة المغرب المسيرة الاحتجاجية التي انطلقت منذ ال 15 ماي 2012 و التي لم تكن مسبوقة من حيث حجم التجاوب الذي عرفه الجسم القضائي من أجل رد التضامن و التآزر إليه بعد موت سريري فرض عليه فرضا خلال العهود السابقة. و إذا كان المراقبون الداخليون أو الخارجيون يتابعون المسيرة النضالية للقضاة بالمغرب عن كثب ، فإن الملاحظة التي تبدو جلية لهم هي أن القضاة المغاربة بالفعل استطاعوا لحد تاريخه الإقدام على الخطوات التي نادوا بها من أجل الدفاع عن استقلالهم و استقلال القرار القضائي و تحصينه من كل تدخل . لكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تفسير الموقف المريب للحكومة عموما و وزارة العدل والحريات على وجه الدقة و المتمثل في اتباع سياسة الهروب إلى الأمام من خلال الإقصاء المتواتر للنادي و أجهزته ؛ و بالتالي من خلال الالتفاف على الإرادة الشعبية التي أقرت الدستور كما أقرت للقضاة حقهم في تأسيس جمعياتهم المهنية ؟ إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في رصد مجموعة من ردود الأفعال التي صدرت عن الجهة الحكومية المعنية ، و ذلك من خلال ما يلي : أولا : في رفض السيد رئيس الحكومة الإدلاء بأي رد عن الكتاب الموجه له من قبل نادي قضاة المغرب ، و يبدو أن هذا الموقف ليس معزولا و إنما هو موقف مبدئي لدى السيد رئيس الحكومة اتجاه كل الفعاليا ت الحقوقية المخالفة ، إذ سبق لعدة جهات حقوقية أن اشتكت نفس الموقف ، و على رأسها " منظّمة العفو الدولية "آمْنِيستِي" فرع المغرب التي سبق لها أن راسلت نفس الحهة بشأن انتهاكات الجسيمة للحقوق و الحريات دون تلقي أي رد. ثانيا : في مقاطعة السيد وزير العدل و الحريات لكل أنشطة النادي ، و بالمقابل مشاركته الفاعلة في كل الأنشطة التي تقدم عليها باقي الجهات القضائية الأخرى ، و في ذلك تمييز قائم على أساس المصالح و اتباع لسياسة "من ليس معنا فهو ضدنا " و التي تعبر عن كون السيد وزير العدل و الحريات لا يتصرف في منصبه كوزير و مؤسسة وزارية لها خصوصيتها الدستورية و إنما باعتباره خصما سياسيا يسعى إلى إقصاء خصومه المنافسين . و لقد كانت الخطوة التي اتخذتها وزارة العدل و الحريات من خلال إقدامها على نشر جدول أعمال المجلس الأعلى للقضاء و كذا نشر نتائجه محاولة منها إلى إضفاء نوع من الشفافية في تعاملها مع الشأن القضائي ، لكن تلك الخطوة لم تفلح في إقناع الرأي العام و بالأحرى القضائي في جدوى تلك الخطوات ؛ إذ تبدى وبسرعة جلية أن تلك الخطوات جاءت كردة فعل عن الدعوات التي ما فتئ نادي قضاة المغرب ينادي بها ، و أن ما قامت به الوزارة جاء في هذا السياق و ليس في أي سياق آخر ، و لنا في ذلك عدة أدلة سنعمل على سردها فيما بعد . كما أن وزارة العدل و الحريات و باعتبارها اليد الحكومية في قطاع العدل حاولت التصدي لكل محاولات الالتقاء بنادي قضاة المغرب و في كل المناسبات و على رأسها الحلقة التلفزية التي تمت إذاعتها على القناة الوطنية الأولى من خلال برنامج " قضايا و آراء " . و لما ظهر للرأي العام و الإعلامي عجز الحكومة عن التصدي لملف القضاء ، كان لوزارة العدل و الحريات رد فعل صدر عنها من خلال الوقف الذي ربط غياب السيد الوزير عن الحلقة بحجة تزامنها مع جنازة المرحوم السيد الناصري وزير العدل السابق ، في حين كان في كل المحطات على السيد وزير العدل و الحريات أن يكلف من ينوب عنه في تلك المحطات التي تخلف عنها متى كان نادي قضاة المغرب حاضرا ، و كان على الوزارة ألا تكتفي بالتبريرات . فإذا كان مستساغا أن يغيب وزير العدل و الحريات أو من ينوب عنه في الندوة الوطنية التي أقامها نادي قضاة المغرب بتاريخ 28 أبريل 2012 بمقر المعهد العالي للقضاء بحجة من الحجج على اعتبار أن ذلك قد يعتبر نشاطا داخليا ؛ فإن الموقف من الظهور أمام الرأي العام من خلال وسيلة إعلام عمومية لم يكن مستساغا و لا يمكن فهمه إلا من خلال احتقار الرأي العام الذي يبقى له الحق في معرفة موقف الحكومة من السياسة القضائية و سياسة العدل عموما من أجل معرفة الخلل الذي يعرقل تقدم نظام عدالتنا في وقت حرج من تاريخ المغرب . إن ما سبق و أشرنا إليه في السابق يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن الحكومة عموما ووزارة العدل و الحريات على وجه الخصوص لاتتوفر على النية الصادقة في إنزال المقتضيات الدستورية المتعلقة بالسلطة القضائية على أرض الواقع ، ولا أدل على ذلك من كونها استمرت في إقصاء الغالبية العظمى من القضاة و عملت بالمقابل على قلب الصورة من خلال استدعاء جهة واحدة فقدت امتدادها القضائي و جعلها ناطقا باسم الجسم القضائي و صوتا له في اللجنة العليا للحوار و كأن زمن الوصاية على القضاء و القضاة لم ينقض و لا يزال مستمرا . و قد كان على وزارة العدل و الحريات و العقلاء فيها و العقلاء من الجهات المعنية أن يختاروا أحد حلين من أجل تبرير موقفهم ؛ إما أن يتم استدعاء جميع الجهات القضائية المعنية بما فيها المجهرية للظهور بمظهر اللون الديمقراطي على الأقل أو ألا يتم استدعاء أي طرف بالمرة من أجل الوقوف على مسافة واحدة من جميع الفعاليات المهنية . لكن الوزارة بسلوكها هذا المسلك تكون قد اتبعت سياسة الكيل بمكيالين تقرب من يتودد لها و تقصي من ترى في موقفه صلابة و قوة . و في هذا السياق العام يمكن قراءة موقف المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب المتخذ في دورته الاستثنائية المنعقدة بمقر المعهد العالي للقضاء بتاريخ 09-06-2012 ، إذ من خلال التوصيات التي خرج بها يبدو أن أهم ما تم إقراره هو الانسحاب من جلسات الحوار الوطني حول منظومة العدالة ، هذا القرار الذي سيسيل الكثير من المداد لا محالة ، وسيثير العديد من الأسئلة حول مآل الحوار برمته و موقف وزارة العدل و الحريات من الورطة التي تورطت فيها من خلال نهجها سياسة الإقصاء المتعمد لنادي قضاة المغرب باعتباره الجهة المهنية الأكثر تمثيلية للقضاة ( حوالي 3000 قاضي من أصل 3700 قاضي بعموم المملكة ) . إن الناظر في البيان الصادر عن المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب سيتضح له من خلال التبرير الذي ساقه نفس البيان أن السبب الرئيسي للانسحاب يتمثل في كونه ردة فعل طبيعية للإقصاء الممنهج الذي مورس على النادي و على رأسه إقصاؤه من اللجنة العليا للحوار بما في ذلك من تبخيس لتمثيلية القضاة و احتقار للجسم القضائي و تعالي في التعاطي الحقيقي مع المشاكل الحقيقية و الملحة لمنظومة العدالة و المكون القضائي الذي يعتبر جزء جوهريا منها و محورا لها . فوزارة العدل و الحريات تعتبر بالفعل المسؤولة عن المآل الذي سيصل إليه الحوار الوطني و النفق المسدود الذي من المتوقع أن يصدطم به . إذ في الوقت الذي كنا ننتظر فيه التنزيل الديمقراطي للمضامين الدستورية على أرض الواقع نصطدم بسلوك إقصائي يتطاول على الرغبة الملكية ذاتها بانتهاج سياسة الإقصاء للأغلبية و الاكتفاء بالأقلية ، بل و تغييب القضاة و كل الفاعلين الأساسيين من محامين و كتاب ضبط و مفوضين و عدول و موثقين و غيرهم من المتدخلين في جهاز العدالة مع التأكيد على ضرورة إشراك الشرطة القضائية في أفق التفعيل الدستوري لمقتضيات الفصل 128 من الدستوري و القاضي بتبعية أفراد الشرطة القضائية للسلطة القضائية ممثلة في النيابة العامة و قضاء الحقيق . إن ما اتخذه المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب من موقف اتجاه " الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة " يعتبر بالفعل موقفا تاريخيا يسحب البساط من تحت أرجل الحكومة التي تنوي تمرير مخطط مدروس و معد سلفا ، و تريد أن تؤثث له بنقاشات موجهة في اتجاه معين ، من أجل إضفاء الصفة الديمقراطية والتشاركية على الحوار و النتائج التي سيتم فرضها في آخر المطاف من خلال تسويقها على أساس أنها نتيجة المشاورات الوطنية بشأن منظومة العدالة . و قد كان على الجهة الحكومية المعنية و على مختلف الفعاليات السياسية سواء منها الممثلة في البرلمان أو غيرها أن تقتدي بما قامت به مصر مثلا بشأن تفويض مسألة وضع القانون المتعلق بالسلطة القضائية للقضاة أنفسهم ثم بعد ذلك طرحه للنقاش من قبل مختلف الفعاليات إذ مهما تكن القوة التشريعية لأي جهاز كان فإنها تكون محدودة متى تعلق الأمر بأمور تقنية لا يفهمها إلا أصحاب الشأن ، وهو ما ينطبق على الأمور المتعلقة بالقضاء و القضاة ، و لعل في نهج هذا السبيل إعلان صريح عن الرغبة الحقيقية في الدفع بقطار العدالة إلي الأمام بدل نهج سياسة النعامة عبر الهروب إلى الأمام . و من خلال كل ما سلف نخلص إلى أن الوقف الذي اتخذه المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب ، سيؤثر لا محالة في سير الأمور ، و يمكن إدراجه في نطاق الفعل السياسي الذي يجد صداه عند الجهات المعنية من غيرأن يكون له حضور ظاهر ، و في هذا السياق يمكن القول بأن : انسحاب النادي من جلسات الحوار لا يعني إرساء قطيعة مع الفعاليات المدنية والحقوقية و كل الفعاليات المعنية ، بل إن ذلك التواصل الذي بدأ سيتواصل في المستقبل . النادي يتعين عليه أن يجد آليات بديلة رفقة كل الجهات المعنية و التي تم إقصاؤها، من أجل القيام بحوار مواز يخلص إلى خلاصات حقيقية حول منظومة العدالة و سبل تجاوز معيقاتها تكون معيارا لمدى جدية التوصيات التي ستكشف عنها الوزارة المعنية في نهاية جلسات الحوار التي ترعاه . النادي قد وضع المواطنين و المواطنات المغاربة أمام حقيقة تفيد أن التدخل السافر للسلطة التنفيذية في منظومة العدالة عموما و القضاء على وجه الدقة قد حان وقت التخلي عنه من أجل إرجاع الحقوق لأصحابها و تمتع المواطنين و المواطنات بحرياتهم وفق ما يكفله لهم الدستور . التنزيل الديمقراطي للدستور يقتضي التخلي عن سياسة الإقصاء ، و هو ما يعتين على النادي ضرب المثل فيه على أرض الواقع من خلال المشاركة الفاعلة والفعالة في كل الأنشطة الموازية . قوة النادي تكمن في المنهجية الديمقراطية التي تتحلى بها أجهزته عند اتخاذ أي قرار، وبالتالي تنزيل ما يتم الاتفاق عليه على أرض الواقع باعتبار أن المعركة معركة وجود و تأسيس لسلطة قضائية حقيقية . و بالتالي فإن نادي قضاة المغرب كما كان سيبقى، قوة قضائية اقتراحية و فاعلة خلال هذه المرحلة الانتقالية في أفق تأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية . ذ نضال القاضي (عضو نادي قضاة المغرب)