لحسن كجديحي إن الوقائع المتسارعة في أيامنا السوداء هذه، قد سلبت من الجسد كل قيمة ذات طابع أخلاقي ، أو رمزي، وجعلته عاريا على غرار النموذج الميكانيكي. النظرة هي اليوم الشكل المهيمن على الحياة الاجتماعية مع المدينة .أصبح فيها الجسد مجرد سلعة للبيع والمتاجرة والاستمتاع ، أصبح مشكلا من الأنا والآخر، الذي يفكك ويتاجر في أعضائه المفككة مثل تجارة المني والبول والعرق، والجلد والدم والأجنة والجماجم والهياكل العظمية وأعضائه المختلفة ، ويمارس الإنجاب بالأنابيب، والإنجاب دون رباط جنسي، والاختزال التقني للموت في غرف الإنعاش إلى غير ذلك. والملاحظ أن المتفسخين يردون كل هذه المظاهر من التبخيس والاستغلال الجسدي إلى ما يسمونه بالعقلانية الإنتاجية أو باختصار إلى الحداثة، بمعنى العقلانية والفردية و"والبروموثيوسية" الإنتاجية، فهي المسؤولة عن كل هذه الموبقات والجرائم، وفي تقديري أن المسكوت عنه في هذا الصدد سكوتا إيديولوجيا هو البنية الرأسمالية للمجتمعات الغربية التي هي وراء كل هذه الظواهر. فإرادة السيطرة على العالم لم يكن بالإمكان التفكير بها إلا بشرط تعميم النموذج "اللبرالي". وهو قول أقرب إلى التبرير ، وليست العقلانية والفردية والحداثة عامة هي المسؤولة عن هذا الاتجاه اللاإنساني، كما يعتقد أصحاب هذا الاتجاه، فيكون الخروج عندنا، من الحداثة ورفض العقلانية والفردية هو السبيل لرفض هذه الرؤية المشوهة للإنسان، إن المسؤولية، في الحقيقة ، هي مسؤولية النظام الرأسمالي، فالعقلانية والحداثة سلاح ذو حدين، سلاح للتحرر وسلاح للقمع، وسلاح للتصحيح والتطوير والبناء وسلاح للقتل والإبادة. فللعقلانية والحداثة مكتشفات ومنجزات إنسانية باهرة في مختلف مجالات الإعمار والبناء والصحة والتقدم الإنساني عامة. ولكن تستخدم من قبل النظام الرأسمالي لتحقيق أهدافها الاستغلالية والتوسعية عامة.. عندما تصل الصراعات اللاشعورية إلى مرحلة يصبح فيها الجهاز النفسي غير قادر على الحفاظ على الضغط الداخلي ضمن سيطرته، وعندما يرفض الجسد الاستمرار في اللعبة اللاشعورية التي نمارسها وتفشل وسائل دفاعنا في الحفاظ على التوازن، أو عندما يصل التنافر إلى مرحلة عدم إمكان تحقيق الانسجام بين مفهوم الفرد لذاته والممارسة الواقعية لهذا المفهوم أو عندما يتهدد نظام المنظومة بالانهيار نتيجة عدد التوازن في علاقات المنظومة الاجتماعية أو الأسرية يتمرد جسدنا علينا بأسلوبه الخاص بإجبارنا على حل الصراعات أو التنافر المسبب للصراعات، وإن كان ذلك بطريقة رمزية ولاشعورية على الغالب، وعلى حساب إحساسنا الجسدي بالراحة والعافية أيضا، إنه يتمرد حتى لو كان في ذلك إحساس بالألم الجسدي، ولكن ربما كان الألم الجسدي أخف وطأة من الألم النفسي. على أن المسألة في جوهرها في تقديري تتعلق بمسألة الاغتراب الإنساني، فالاغتراب الإنساني قد يأخذ اتجاهين وليس اتجاها واحدا، فقد تكون السيطرة على الجسد وسيلة للسيطرة على النفس والفكر وذاتية الإنسان بل إلغاؤها ولعل هذا هو الطابع الغالب على المجتمعات القديمة ( يتمثل هذا في الرق والإقطاع ) وقد تكون السيطرة على فكر الإنسان وعقله ووعيه وحياته الاجتماعية هي السبيل للسيطرة على جسده وحركته وممارساته وهو ما نشاهده في عصرنا الراهن في ظل النظام الرأسمالي وفي ظل التطبيق البيروقراطي في بعض الأنظمة الاشتراكية.. أي أن جوهر الاغتراب الإنساني في النهاية سواء كان ببيع جسده أو ببيع روحه هو الاستغلال والاستعباد الذي يتحقق عبر التاريخ بمستويات وبدرجات مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية وجنسية وجسدية سواء عبوديا أو إقطاعيا أو رأسماليا أو بيروقراطيا أو أيديولوجيا. ولهذا فالأمر لا يتوقف على الحداثة وإنما يتخلق، بالاستغلال تاريخيا على اختلاف تجلياته. ولهذا فلا خلاص لهذا إلا بتحرير الإنسان من السلطة المستغلة القامعة المغيبة لوعيه وذلك بإشاعة الوعي الصحيح والعلم والديمقراطية والحداثة والعقلانية وليس بطمسها والارتداد إلى مرحلة تاريخية لا عقلانية سابقة أو لاحقة باسم الشعبية أو ما بعد الحداثة، أو بالتسامي الفرويدى، أو الحرية الجسدية الشبقية المطلقة التي يقول بها ماركيوز والتي اكتشفت عقلانيتها غير القمعية بالممارسة.وهكذا أصبح الجسد غريبا عن الإنسان، ونزعت عنه قدسيته.( أو أصبح حقيقة مستقلة ) كما أن المعارف المتضاربة قد سلبت منه كل قيمة ذات طابع أخلاقي ، أو رمزي، وجعلته عاريا على غرار النموذج اللبرالي. رؤية حديثة علمانية، نفعية ثنائية ، أصبح فيها الجسد مجرد سلعة للبيع والمتاجرة والاستمتاع ، أصبح مشكلا من الأنا والآخر، الذي يفكك ويتاجر في أعضائه المفككة مثل تجارة المني والبول والعرق، والجلد والدم والأجنة والجماجم والهياكل العظمية وأعضائه المختلفة ، ويمارس الإنجاب بالأنابيب، والإنجاب دون رباط جنسي، والاختزال التقني للموت في غرف الإنعاش إلى غير ذلك. لقد تحول الجسد بالفعل إلى قوة إنتاج، وأداة عاملة، وسلعة للمتاجرة ورأسمال للاستثمار والربح، فقد قيمته الرمزية الأخلاقية وتحولت الثورة من أجل تحريره في تجارة رائجة للجنس في شكل "بوروتوجرافيا"، بل أصبح الجنس يمارس شفاهة خلال أجهزة المعلوماتية أو ما يشبه التلفزيون، ينقل إليك ويحاورك في كل ما تطلبه بما في ذلك إثارة أحاسيسك الشبقية وإرواؤها شفهيا، بل إن الرياضة بمهرجاناتها وثقافاتها وجوائزها أصبحت تجارة دولية بألعابها وما يرتبط بألعابها من ملابس وأدوات وأدوية وعلاجات، بل أصبحت مجالا لتنمية الكراهية بين الناس ونمطا إنتاجيا لصناعة الموت في كثير من الأحيان، فضلا عن التغييب عن القضايا الإنسانية شأنها أحيانا شأن المخدرات والمسلسلات التلفزيونية.