لا يختلف اثنان في أن الهدف الأول لوسائل الإعلام العمومي، هو العمل على تعبئة الرأي العام الوطني وتنويره، و كذا تحذيره من الوقوع في ما يمكن أن يوقعه في ما لا تحمد عقباه، وفي هذا الإطار، ورغبة منها في تقديم خدمات إعلامية، طلعت علينا مؤخرا القناة الثانية، ببرنامج، بعنوان: "أخطر المجرمين" تحكي بالصور من خلاله في حلقات منفصلة وقائع إجرامية، حدثت إبان سنوات خلت .. أبطالها خارجون عن القانون، اقترفت أياديهم أفعال إجرامية مشينة، أدت إلى قتل ونهب وتخريب، وقد قال القضاء آنذاك فيهم كلمة الفصل، فمنهم من عاد إلى فضاء الحرية بعد انقضاء مدة العقوبة، ومنهم من لا يزال يقضي عقوبته داخل الزنازن، وربما يكون الشيء المدهش، هو كيف أن المشرفين على البرمجة بهذه القناة لم يتوقعوا النتائج السلبية التي تترتب عادة عن إعادة إذاعة وعرض مثل هذه الصور، التي أزعجت وقضت المضاجع، بل والتي كانت بمثابة كابوس مزعج وقتذاك، والتي لا تدعو لها الظروف الراهنة للبلاد، بل ولا ترجى منها أي فائدة، اللهم إلا أنها تعمل على تقليب المواجع، وتذكير العائلات التي تعرض ذويها لبعض تلك الأحداث على العموم، وأسر وأقارب من اقترفت أياديهم الأفعال الإجرامية المشار إليها أعلاه على الخصوص، تذكيرهم، بقصص الرعب التي عكرت صفاء حياتهم في لحظة ما .. وهذا كله يحدث في غياب احترام لمشاعرالمشاهدين، الذين تجب استشارتهم في مثل هذه الحالات، لأنهم يساهمون من جهتهم في تمويل القناة، ولم تراعى نفسية ومشاعر السجناء الذين تم التشهير بهم وعرض صورهم على العموم دون أخذ رأيهم، ناسين أن نشر أخبار الجريمة هو في حد ذاته يعد جريمة، وقد يساعد على الترويج لها عند الناشئة، وخصوصا عندما تعرض (الأخبار) بطريقة دراماتيكية وفي كثير من الأحيان بأسلوب "التشويق" من خلال عناوين لافتة، الشي الذي يدفع إلى تعظيم صورة المجرم من خلال إبراز ذكائه، وتصويره وكأنه بطل. وإذا سلمنا أن المشرفين على البرامج بقناة عين السبع، عملوا بالقاعدة التي تقول: "إن الإعلامي الحقيقي هو من يقدم رسالة هادفة وتنويرية" وانطلقوا من منطلق أن إذاعة أخبار الجريمة يساهم في خلق وعي جماهيري، ويؤدي إلى التقليص من عدد الجرائم، وفكروا فعلا في فضح صانعي الفساد ببلادنا، ووضع أفراد هذا المجتمع في الصورة الحقيقية للجرائم البشعة التي قام بها العتاة في سنوات مضت .. فلماذا لم يفتحوا سجلات المفسدين الحقيقيين، الذين عاثوا في الأرض فسادا، ولا زال التاريخ شاهدا على فضائحهم ومصائبهم التي لا تعد ولا تحصى .. لماذا لم يتم فتح وعرض ملف الفساد الكبير، الذي يحمل توقيع (عباس الفاسي) الذي كان السبب الرئيسي في حدوث عملية نصب كبيرة بكل المقاييس، والتي لم يحدث أن عرف المغرب مثلها من قبل، لما تم التحايل على 30 ألف شاب مغربي، في فضيحة "النجاة" الشهيرة التي تعد (صفقة القرن) .. منهم من قضى نحبه انتحارا، ومنهم من لازال يحمل بين جنبيه غصة (الحكرة والشمتة) وللتذكير، فقد كانت للقناة يد فيها، بحيث استاضفت بطل اللعبة (بوصفه وزيرا للتشغيل) في برنامج وجها لوجه، الذي كانت تقدمه الإعلامية مليكة مالك، وثبت أن قال بالحرف: "... إن الصفقة جدية وحقيقة، وإنها فرصة لا تعوض، وان من يشككون فيها، فقط يريدون تأييس الناس وزرع الشكوك والبلبة..." ( وفين هي النتيجة السي عباس ؟) إذن، لماذا لا تتم إذاعة أسماء البطانة الفاسدة التي لا تخاف رموزها الله، وليس فيهم من الإنسانية إلا شكلها، الذين لم يتعظوا ولن يتوبوا أبدا، ولن يتوقفوا عن عمليات السلب والنهب والابتزاز، سارقو أموال هذا الشعب، الذين عوض تقديمهم للعدالة لتقول فيهم كلمة الحق، ويكونوا عبرة لغيرهم من الذين يهوون النهب والسلب، والذين يفصلون القرارات على مقاسهم ومقاسات أسرهم والمقربين منهم، تجدهم يتمتعون بكل الامتيازات، دون أن يتعرضوا للسؤال الذي لم يكتب له أن يعرف التطبيق بعد في مغربنا الحبيب: من أين لك هذا ؟ ولماذا لم تعمل قناة (2M) على حبك سيناريوهات لهؤلاء المفسدين حتى يتعرف عليهم كل أفراد هذا الوطن ؟ بدل العمل على استغلال قضايا نال أصحابها نصيبهم من العقاب وانتهى أمرهم، وهل المفسدون ذوي (الكروش) الكبيرة مزكون من لدن رب العالمين، أولايجوز فضحهم أو تشويه صورهم ..؟ وأخيرا، لماذا النبش في ذكريات أليمة، لا زال الكثيرون يعيشون تداعياتها السلبية .. فلماذا تريد إذن القناة الثانية دفع المواطنين المغاربة إلى العيش في مسلسل الرعب من خلال عرض وقائع وأحداث أصبحت من الماضي ؟ وربما أن الذين بيدهم زمام أمور قناتنا الموقرة، لا يعلمون أن المرء صاحب المروءة، إذا أحس بالذل والهوان، وإذا انتهكت كرامته فقد يتحول بسرعة إلى جمل هائج لا تقوى كل المحاولات على تهدأته...