من المؤكد أن جميع الأنظمة العربية الشمولية والمستبدة، لا تشعر بالارتياح مما يجري في تونس، على اثر "ثورة الياسمين" الشعبية، التي كسرت جميع حواجز الخوف من أجل الانعتاق من حكم الحزب الوحيد، الذي تنكر لكل المباديء والشعارات من لحظة ولادته، و ان أغلب هؤلاء القادة يتمنون إيقاف زحف رياحها على شواطيء دولهم، بعد رحيل رأس هرم هذا النظام، وفراره من غضب الجماهير التي خرجت إلى الشارع بدون تأطير حزبي أونقابي. ربما هذا هو المنعطف التاريخي الجديد، الذي يستيقظ عليه العرب اليوم، وما على الذين يراهنون على القمع والقهر، إلا الاستعداد لأداء ثمن بؤس أو ضاع شعوبهم الاقتصادية .. الاجتماعية .. السياسية والثقافية، خصوصا بعد أن ضاقت مساحة المناورة والاحتواء والانتظار، وسيكون من الصعب إيقاف الشرائح الاجتماعية، التي تعاني من البطالة والفقر والهشاشة، على الانخراط في مثل هذه الحركة الاجتماعية، المناهضة لاستمرار الاستغلال والفساد والتخلف والاستبداد، وليس هناك من يشكك في أن ما حدث بتونس مرتبط بتداعيات الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، التي تقف وراءها عبثية عربدة رأسمالية السوق الحرة في الأسواق التجارية والمالية، التي تبين للدول التي تحتضن مقرات شركاتها الإنتاجية والتجارية والمالية، عقم ووهم حريقها، فسارعت إلى التدخل والتحكم في أنشطتها، وضبط سياستها التي أغرقت العالم اليوم فيما يعيشه من اضطراب و فوضى حتى في دول المركز الرأسمالي، التي كانت تستعملها كوسائل للتدخل والهيمنة، سواء قبل أو بعد الحرب الباردة، فبالأحرى، في منطقتنا العربية، التي لم يستقر فيها مؤشر التنمية في جميع المجالات، حتى تلك التي تمتلك الثروة النفطية، ووصلت إلى أوضاع متقدمة في أنماط عيشها حاليا، فما بالك بالدول العربية الأكثر قهرا وتخلفا، وهذا ما يؤكد على أن تحرك الشارع التونسي، وجد في تناقض واقعه مع الشعارات المرفوعة ما يحرضه على العصيان والتظاهر، من أجل التغيير الجدري لنمط العيش، الذي كان يؤمن العيش الكريم للأقلية المحظوظة في المجتمع، التي لم تكن مستعدة لهذه المواجهة مع العاطلين والفقراء والمحرومين في المجتمع التونسي، الذي كان الإعلام الموالي للوبيات المسيطرة يروج صورا مغلوطة عن بؤسه وتخلفه. إذن ليس في "ثورة الياسمين" التونسية ما يتعارض مع جدلية التطور التي تتحكم في الوجود الطبيعي والبشري والتاريخي، إلا أن الصيرورة في الشروط التي تمت بها، هي التي تفرض نفسها على المحلل الاجتماعي والتاريخي، فحتى عهد قريب، لم يكن الواقع التونسي مرشحا لهذا الزلزال، الذي أسقط حسابات أحد الأنظمة السياسية العربية، التي كانت تدعي وتروج لنجاحاتها في تدبير الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأمن، فهل كان من الطبيعي أن يحدث هذا الزلزال، الذي عرى على هزال وقصور الايديولوجيا الدعائية، التي كان النظام السابق يتباهى بها في الوطن العربي، ويا ليت تسلسل الأحداث توقف عند هذا السقوط الكبير للأقنعة، التي كانت تستر الواقع الحقيقي للمجتمع التونسي ..! فهذا الخروج العفوي للجماهير إلى الشارع، لم يكن أيا كان يعتقد أنه سيصل إلى هذه النهاية السريعة للنظام، الذي استولى على حكم بورقيبة عبر الانقلاب الأبيض، والذي ظل جاثما على نفوس أبناء تونس على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، دون أن يحقق على هذه الأرض الشعارات والمباديء التي قام عليها في البداية، والتي يحاول بعض رموزه لوكها بعد فوات الأوان، وتزايد الضغط الشعبي عليه للرحيل عن الحكم حزبا وأفكارا وأفرادا، وان كان هذا الفصل الأخير في مسرحية هذه الثورة لا يزال يصارع رجاله في الشارع، من أجل تجاوز صفحة وجود حزب الرئيس السابق، والسماح بإقرار نظام جديد يكفل حقوق الإنسان والديموقراطية، ويعالج جدور الأزمة الاقتصادية والسياسية، التي فرضت اللجوء إلى هذه الثورة الشعبية، التي لازالت نهايتها لم تكتمل حتى الآن، رغم رحيل الرئيس السابق. العبرة من درس "ثورة الياسمين" تجسده الجماهير، التي خرجت في مصر والأردن واليمن، والتي لا يعرف كيف ستكون نهاياتها غدا، بعد أن أصبحت الأنظمة الحاكمة في هذه الدول عاجزة على احتواء زحف الجماهير إلى الشوارع بقيادة الشباب العاطل والبائس، وطوابير المسحوقين في هذه المجتمعات، التي نجح المفلحون منهم في حسن استخدام مواقع الفايس بوك وتويتر واليوتوب، التي عرت مظاهر الفساد والخلل والتخلف في هذه الدول، وعجلت بتواصل المتظاهرين، الذين تتزايد أعدادهم يوما بعد يوم، ومن المحتمل أن هناك دولا أخرى ستكون في مواجهة هذا الحراك الجماهيري الشعبي العفوي، ولن يكون في الإمكان تدارك ما سيحدث، إذا لم تسارع هذه الأنظمة إلى معالجة مشاكلها، وضبط برامجها، وبرامج أحزابها الحاكمة على إيقاع ما تريده هذه الجماهير، التي ستعصف بكل ما يمكن أن يصادفها في الطريق، ويخطيء من يؤمن بأن الأنظمة التي تنعم بالاستقرار، ولم تصل إليها رياح التغيير بعد، أنها في منأى عن ذلك، وأنه بإمكانها قمع وزجر أي انفلات أمني، أوعصيان محتمل في حدودها الجغرافية. إن الذين يتحكمون في مصائر شعوبهم، عبر الأليات والقوانين والقيم التي تتعارض مع ما تحمله رياح التغيير نحو الديموقراطية والعدالة والحرية والحداثة، التي تهب اليوم في أكثر من جهة جغرافية عربية، إنهم سيجدون أنفسهم عاجزين على احتواء تداعيات هذه الرياح، وقد يضطرون إلى الرحيل، كما فعل رئيس تونس، وحينها، لن ينفع الندم والتأخر في القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في دولهم، خصوصا بعد أن أصبحت أوضاع شعوبهم غير قادرة على تحمل الاستمرار في سياسة الترميم والتجميل والتجاهل، الممارسة من قبل هؤلاء المتحكمين في سلطة القرار في هذه الدول. إذن، الخلخلة والتحرك نحو الأرقى والأفضل، أصبحت متاحة بالنسبة لجميع الشعوب في مجتمع المعرفة والتقنية المتقدمة، التي جعلت العالم قرية صغيرة، وساهمت في تطور وسائل وقنوات ووسائط التواصل والتفاعل بين جميع الشعوب، وهذا ما أفرزته "ثورة الياسمين" التونسية التي وظفت فيها هذه الثورة التكنولوجية التي عجز النظام في السيطرة على ما كانت تذيعه من أخبار ومعلومات وآراء، حول مظاهر الأزمة التي كان يعيش فيها الشعب التونسي على يد اللوبيات الفاسدة، هذا هو تصورنا نحن في النقابة المستقلة للصحافيين المغاربة، وعلى جميع الأطراف المعنية استحضار ما يحدث، والإسراع باستعجال الإصلاحات والمعالجات، حتى لاتجد نفسها أمام الزلزال الذي بدأ في تونس، ثم في الأردن، ثم مصر واليمن، ويعلم الله إلى أين تتجه رياح التغيير في الوطن العربي غدا. النقابة المستقلة للصحافيين المغاربة