تتأسس التربية كمنهج وسلوك وخطاب على المطالبة بتحسين العلاقات المتبادلة بين البشر بوضع أسس ومباديء تحترم على أساس التشبع بها بصورة فعالة في عملية تنمية العقول المخاطبة والمتلقية. وهذه العلاقات الإنسانية لا يمكنها أن تتطور إلى الأحسن لولا خلق إطار جديد يروم حقوق الإنسان كنظرية معرفية وسلوكية وقانونية تعهد إلى القائمين على التربية لتفعيلها داخل الساحة التربوية والتعليمية . ولعل الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان الذي صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر 1948، اعتبر آنذاك فاتحة خير لكل المستضعفين في الأرض، ولكل من هضمت حقوقه المدنية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية... لكن ما ظهر بعد ذلك هو التماطل والتراجع في تطبيق بنوده، بل وجدت الكثير من الدول من تحفظت على بعض بنوده وفصوله، واعتبارها بمثابة تراجعات عن القيم والمباديء الوطنية والدينية. فظهرت القيم كشماعة تعلق عليها تجاوزات وأخطاء المخرن والسلطات في بعض الدول في حق مواطنيها وشعوبها، وكان المغرب أحد هذه الدول التي عرفت تجاوزات وانتهاكات في حق مواطنيه بالقتل والتعذيب والإهانة والحرمان والحبس والتصفية .... ولإنقاد ماء وجه المغرب من الفضيحة خطا خطوت محتشمة لتجاوز هذه الانتهاكات بخلق وزارة لحقوق الإنسان في الثمانينيات، وتأسيس مجلس استشاري لحقوق الإنسان في التسعينيات، ثم آخرها هيكلة هيأة الإنصاف والمصالحة التي عهد إليها التنقيب في هذه التجاوزات ومحاولة جبر ضررها. ولكن ما يعاب على هذه الخطوة/الخطوات أنها كانت لا ترقى إلى المسؤولية لجبر الضرر الذي لحق الإنسان مؤخرا، فانهمكت في الماضي وتركت الباب مشرعا للدولة لتمارس انتهاكاتها من جديد في حق معارضيها ومنتقديها . ولعل الحوادث التي تورطت فيها أجهزة الدولة من قريب أو بعيد منذ بداية الألفية الثالثة إلى اليوم أكبر دليل على هذا الكلام. ولا يمكننا أن ننكر أنه ظهر في السنين الأخيرة انفراج حقوقي خاصة على مستوى حرية التعبير والنقد وخلق الصحافة المستقلة التي أضافت إلى المجال الإعلامي نكهة جديدة فصار أعظم لذة مما كان عليه من قبل، وصار من حق أي أحد أن يقول رأيه ويعلنه على الملإ. لكن ما يصعب الأمر أمام الدولة المغربية لتنطلق السهم من الرمية في مجال حقوق الإنسان، هو مشكلة وضع أساس نظري وتربوي لهذه الحقوق لتكون بذرة نقية تجد الأرض خصبة لتنبت وتترعرع في جو ملائم وجذاب، حتى تصبح في الأخير وردة فياحة تغمر ساحتنا بعطر التسامح والتعاون واحترام الرأيالآخر والاختلاف والرضى بالآخر . ونمر الآن، إلى علاقة التربية والتعليم بحقوق الإنسان فنقول بأن هذه المقاربة الحقوقية لم تجد طريقها الواضح للتوغل في برامج ومقررات المدرسة المغربية، إلا من بعض الإشارات تكاد تكون محتشمة وضعيفة أمام تطور الوسائل والمعارف وتعددها، فكان من الأولى لدى أهل الإصلاح التربوي أن يضعوا مسألة حقوق الإنسان في تصورهم كمنهجية للانطلاق في التنفيذ والتغيير . وكان إعلان حقوق الطفل بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نونبر 1959، قد جاء بضرورة رعاية الطفل ومنحه كل حقوقه المفترضة، ليتمتع بطفولة حقة وخالية من المنغصات والمسائل التي تحد من نموه العادي السليم . ويظهر من خلال تصفح الميثاق الوطني للتربية والتكوين نجد بعض الإشارات الصريحة لمسألة حقوق الإنسان أنه يدعو إلى محاولة مقاربة هذا المفهوم نظريا وتطبيقيا إن على مستوى البرامج، أو على مستوى التعامل اليومي داخل المحيط المدرسي أو خارجه، وهذا جاء ضمن مسار عسير لمحاولة تطبيق اتفاقية نونبر 1989 لحقوق الطفل، والتي جاءت ببعض المواد كانت البلسم الشافي لجراح الإنسان والطفولة تلك التي عرفتها خلال عقود من الزمن خلت، ومنها : المادة 13 : يكون للطفل الحق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها . المادة 19 : اتخاذ جميع الأشكال والتدابير الاجتماعية والاقتصادية لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر . المادة 27 : حق الطفل في مستوى معيشي ملائم لنموه البدني والعقلي والروحي والمعنوي والاجتماعي . المادة 28 : حق الطفل في التعليم ويكون وفق مباديء هي : _ جعل التعليم الابتدائي إلزاميا ومتاحا مجانا للجميع . _ تشجيع تطوير أشكال شتى أنواع التعليم الثانوي العام أو المهني . _ جعل التعليم العالي متاحا للجميع على أساس القدرات . _ جعل المعلومات والمباديء الإرشادية التربوية والمهنية متوفرة لجميع الأطفال . _ اتخاذ التدابير لتشجيع الحضور الدائم في المدارس . ورغم كل هذه المواد والفصول الغنية بتعابير الحقوق والعناية بالطفل داخل الأسرة أو داخل المدرسة، إلا أننا نجد هناك قصورا عاما في تطبيقها، ومحاولة تنفيذ بنودها المهمة التي وضعها الإصلاح التربوي والتعليمي في أولى أولوياته. ولنكون واضحين أكثر فمسألة التعميم مثلا تطابق ما جاءت به المادة 28 من "اتفاقية حقوق الطفل" لكننا نجد أن هناك قصورا في تنفيذ حيثيات هذه المادة، فالخصاص في هيأة التدريس وضعف البنية التحتية وعدم توفرها في بعض الأحيان، وتغليب الكم في المقررات والبرامج على الكيف والجودة، وضعف التكوين، وانعدام التكوين المستمر أو قلته، واتساع الهوة السحيقة بين المدرسة ومحيطها... كل هذه الأمور وأخرى كثيرة لا تتماشى مع ما جاءت به المادة 28 من الاتفاقية، لذلك كان لا بد وقبل أن يتم التوقيع على هذه الاتفاقية، أن تستحضر جميع هذه الشروط والبنيات التحتية ليكون طفلنا في أفضل حال، ولكي يتم التأكد من كلامنا هذا، وألا يعتبر تحاملا وتنقيصا من المجهودات التي يتحملها المسؤولون على القطاع، ندعو الجميع إلى التوجه إلى العالم القروي، وسيرى بأم عينيه حقوق الطفل كيف تهضم وتنتهك مقارنة مع طفل المدينة في ظل المتاح عندنا طبعا . وحتى إن قمنا بقراءة لبرامج ومقررات التعليم الابتدائي عامة، فسنجد أن هناك فقط إشارات متداخلة هنا وهناك تشير بالبنان إلى بعض الحقوق البسيطة للطفل، عكس الانغماس في الموضوع أكثر لخلق طفل مشاغب فكريا ومعرفيا وكل هذا ما هو إلا نتيجة الخوف من استيقاظه في صباح ما، ليطالب بالأكثر وبحقوقه كاملة غير منقوصة. فثقافة الخوف المزروعة في عقول مسؤولينا كانت هي السبب الواضح في التراجع عن وضع تعليم حقوقي يخلق طفلا يعرف ما له وما عليه ..... عزيز العرباوي