حققت العديد من الأسر المغربية، عبر الهجرة، قفزة نوعية في وضعها المادي. لكن رغم ما يبدو من تحسن واضح في ما يخص غالبية الحالات، إلا أن الهجرة، كنشاط اجتماعي، انعكست سلبا على عدد كبير من الأسر، خاصة حينما يكون المهاجر هو الزوج والمعيل الوحيد للأسرة، بينما تظل الزوجة في معاناة مزدوجة. معاناة سببها جحيم غياب الزوج وتسلط الحماة وأهل الزوج، ومسؤولية تربية الأبناء لوحدها. تحاول السعدية جاهدة أن تلملم أشلاء روح انكسرت بسبب انتظار زوجها الذي اتخذ من المهجر وطنا دائما، وبسبب معاناتها اليومية مع حماتها التي حولت حياتها إلى جحيم لم تعد تطيقه. فقد سافر الزوج بعد زواجهما بأشهر معدودة، وتركها قبل سنتين رفقة أسرته المكونة من أب وأم وشقيقين. حاولت في البداية أن تجعله يعدل عن رأيه ويكتفي بما يدره عمله في الفلاحة رفقة أبيه، وتوسلت إليه أن يغير رأيه، وأكدت له أنها لن تكون زوجة متطلبة، وأن كل ما ستطلبه سيكون في حدود المعقول ولن يتعدى ضروريات الحياة، لكن توسلاتها لم تجد نفعا. تقول السعدية بحسرة بالغة: «مضت على سفر زوجي سنتان، وأقسى ما في الأمر هو أنه سافر دون أن يرى ملامح طفلنا الوحيد. أنتظر مكالمة زوجي بفارغ الصبر، مرة كل أسبوعين وأحيانا أكثر... مكالمة أبثه فيها شوقي إليه وقلقي من وضع لم أعد أتحمله، فحماتي تضيق علي الخناق، وتعتقد أن خروجي من المنزل أمر غير وارد، وحتى زياراتي لبيت أسرتي أضحت معدودة بسببها، وتصر أن ترافقني لاقتناعها بأنه لا يحق للمرأة المتزوجة أن تخرج من دون مرافق، ولذلك تعتبرني، ونظرة الشك بادية في عينيها، أنني أمانة في عنقها، وأنه يجب أن تحافظ عليها إلى حين عودة ابنها، وأن الجيران والناس سيلقون باللائمة عليها لأنها هي المسؤولة أمام ابنها عن زوجته في غيابه، وأنه من اللازم عليها أن تحصنها من الخطأ قبل أن تقع فيه». تعترف السعدية بأن جميع أفراد أسرة الزوج يمارسون سلطة مطلقة عليها، والحماة هي من يتحكم في كل شيء .. «فكرت مرارا في أن أطلب الطلاق حتى أتحرر من هذا الوضع الخانق، فحريتي مصادرة وحركاتي محسوبة، وحتى تربية ابني يتدخل فيها كل من في البيت، بل إنهم يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، وحتى المكالمات الهاتفية التي يحق لي أن أختلي فيها بزوجي أتقاسمها مع الجميع، مجبرة، حيث ينصت الجميع إلى كل ما أقوله». كدت أفقد أسرتي لطيفة بدورها تلعن حظها العاثر الذي جعلها تقبل الزواج من رجل مهاجر يعمل في الديار الإيطالية، تقول ونبرة الحسرة والندم لا تفارق كلامها: «أبنائي هم من يدفع الثمن اليوم، فرغم أنني أحاول جاهدة إبعادهم عن الانحراف، إلا أنني أعتقد أنني أصارع قوة لا قدرة لي على صدها، والسبب هو غياب الأب الذي لا نراه إلا مرة كل سنة، متذرعا بأن بلاد الغربة لا تصلح لتربية الأولاد، وأنه من الأفضل أن يتربوا في وطنهم حتى لا يسقطوا في شرك الانحراف.. لكن الانحراف امتد إليهم في غفلة منه بسبب بعده عنهم، ومع ذلك كله يرفض أن ألتحق به رفقة الأبناء، رغم أن وضعه هناك مستقر. هددته مرارا بأنني سأعود إلى بيت أهلي إن لم يستجب لطلبي، لكنه كان في كل مرة يشبعني ضربا ويرحل ليتركني مخلفا وراءه جروحا جسدية ونفسية.. لم أعد أعرف كيف أتصرف، فالأولاد كبروا وكبرت مشاكلهم، خاصة الذكور الذين تتضاعف طلباتهم ورعايتهم أيضا، وقد كاد ابني يصل إلى السجن ذات يوم لولا تدخل بعض أفراد الأسرة. وعندما عاد زوجي إلى المغرب أوسعني ضربا مع الأولاد، مهددا بأنه لن يبعث درهما واحدا إن استمررنا في خلق المشاكل، وأننا لن نراه ثانية إن استمر هذا الوضع». وتتنهد بحرقة وتضيف: «لقد أصبحت أكره نفسي وحياتي وهذا المصير الذي يجمعني بهذا الرجل الذي لا يعرف أن تربية الأبناء أمر يصعب على الأم تحمله وحدها، وأن وجوده معنا لا تعوضه كل الأموال التي جناها أو تلك التي سيجنيها مستقبلا.. لقد حطمت الهجرة أحلامي بحياة مستقرة هادئة، ولا يسعني اليوم إلا الصبر والتحمل حتى يقتنع زوجي ذات يوم بفكرة العودة إلى البلاد، ليربي أولاده ويتحمل مسؤوليتهم معي ويراقب تصرفاتهم في زمن أصبحت فيه تربية الأبناء صعبة للغاية».. إلى جانب معاناة لطيفة في تربية الأولاد، تبرز معاناة أخرى أشد وطئا على نفسيتها: «حماتي تنصب نفسها خليفة لزوجي وتقحم نفسها في كل شئ، وتتدخل في كيفية تدبير المنزل رغم أن شقتينا منفصلتين، وتعطي نفسها هذا الحق، دون أن تقيم أي اعتبار لصورتي أمام أبنائي.. وحتى لا أثير مشاكل إضافية، فإنني أتجاهل كلامها الجارح، وأقوم بما يمليه علي ضميري في انتظار الفرج». حنان المتروكة وتختلف حكاية حنان عن حكايات زميلاتها اللواتي اكتوين بنار البعد والمسافات.. ذلك أن فرحتها بزواجها لم تدم سوى أيام معدودة، استفاقت بعدها على حقيقة مرة، تمثلت في رحيل الزوج المفاجئ ودون أي إعلان مسبق. تقول: «تزوجت كما تحلم كل فتاة بحب حياتي، واكتملت فرحتي بليلة زفاف جميلة رغم بساطتها، وقررنا أن نعيش في بيت أسرتي إلى حين تحسن ظروفنا المادية، إلا أن الأمور لم تسر كما خططنا لها، لأفاجأ ذات صباح بخبر مفاده أن زوجي هاجر إلى إيطاليا بطريقة غير شرعية ودون أن يعلمني بالأمر.. دارت الدنيا من حولي وانقلبت سعادتي إلى جحيم.. وأنا اليوم لا أحمل من مواصفات الزوجة إلا الاسم. لقد أصبحت حائرة بين أسرة زوجي وأسرتي التي تحملني مسؤولية ما حدث.. وقد مرت الآن سنة ونصف على رحيل زوجي، وبسبب ذلك أصبحت كالمعلقة؛ فلا أنا متزوجة ولا أنا مطلقة. ونظرات الآخرين تنهش جسدي كلما خرجت من المنزل.. أصبحت حائرة في هذا الوضع، ومازلت أنتظر بفارغ الصبر لأنني أحبه. أعيش معاناة كل يوم، لأن ألسنة الناس لا ترحم ونظرات الجيران الممزوجة بالشفقة والشماتة تقتلني كلما خرجت من المنزل لقضاء أمر ما، لذلك أحاول أن تكون حركاتي محسوبة». رأي الأبناء وليست الزوجة وحدها من يدفع ثمن انتظار زوج مهاجر، بل حتى الأطفال يتجرعون مرارة هذا البعد ويفتقدون في مراحل عمرية مهمة وجود الأب مما يؤثر على التوازن الأسري، كما جاء في شهادة الزوجة خديجة التي تقول: «كان أطفالي دائمي السؤال عن سبب غياب أبيهم، لكن حينما كبروا قليلا فهموا الأمر على طريقتهم، وانعكس ذلك على سلوكهم، وبمرور الوقت لم يعد كلامي يعني لهم شيئا وأصبحت نصائحي تذهب أدراج الرياح، لأنهم يعرفون أنني لا أستطيع أن أفعل أكثر من الصراخ وتهديدهم بعودة أبيهم الذي تلهيه الهجرة وجمع المال عن رؤية أبنائه ومراقبتهم وحمايتهم من خطر الشارع. أعرف أن زوجي متزوج من أخرى هناك، لذلك يتعلل بحجج غير مقنعة ليبعدنا عن هذه الحقيقة التي يعرف أنها لن تزيد أوضاعنا إلا اشتعالا. لكن لم يعد يهمني أن يتزوج غيري، المهم عندي هو أن أربي أبنائي تربية سليمة وأن أحميهم من المخدرات.