مازال فؤاد عالي الهمة يملا الدنيا ويشغل الناس. ولقد ازداد حجم الاهتمام الذي يوليه الرأي العام للرجل في الأيام الأخيرة من خلال ثلاثة أحداث: الحدث الأول ما شاع في الصحافة على نطاق واسع بخصوص تعديل حكومي مرتقب يحمل الهمة إلى سدة الوزير الأول، والثاني هو تواصل اللقاءات التي تعقدها حركة لكل الديمقراطيين في مختلف ربوع البلاد، والثالث هو زيارة الملك لمدينة بنجرير التي ينحدر منها الهمة، والتي ترشح وفاز فيها، وما حفلت به هذه الزيارة من مظاهر شدت إليها الأنظار وما تم رصده لها من تعبئة إعلامية وترتيبات تنظيمية وما اتسمت به من خصوصية بروتوكولية. بصدد قضية التعديل الحكومي، تولى السيد الهمة القيام بخرجة إعلامية للتأكيد على أن الأمر مجرد إشاعة يقصد بها زعزعة استقرار حكومة عباس الفاسي والنيل من هذا الأخير. وأكد أن الحكومة الحالية هي في بداية مشوارها ولا يحق الحكم عليها من الآن، فلم تتح لها الفسحة الزمنية الكافية بعد لوضع خارطة الطريق التي أعدتها موضع التطبيق، دون أن يغفل التأكيد على أن الملك في نهاية المطاف هو صاحب السلطات الدستورية في هذا المجال. وبصدد الجولات واللقاءات التي تنظمها الحركة لكل الديمقراطيين في مختلف مناطق البلاد، والتي يحضرها عالي الهمة بنفسه ويتولى خلالها شرح مرامي حركته وأهدافها، فإنها كانت مناسبة لتجميع عدد هام من الأطر الجمعوية ورجال الأعمال وبعض نشطاء الأحزاب السياسية والمثقفين. ليس هناك، إلى حد الساعة، توافد شعبي شبابي ونسائي أو استقطابات بالجملة لأفواج مناضلين في قواعد الأحزاب الديمقراطية، لفائدة الحركة الوليدة، التي تأخذ اليوم شكل إطار نخبوي. وقد يكون قادة الحركة قرروا من تلقاء أنفسهم أن يُبقوا عليها حاليا في هذا الشكل. وعلى كل، فرغم كل التحليلات و»التوضيحات» التي يقدمها الهمة بخصوص طبيعة حركته، فإنها تظل مع ذلك غامضة المآل، وليس هناك في خطاب الهمة ما يكفي من العناصر التي تسمح بتحديد طبيعتها بشكل نهائي. فهذا الخطاب إذا كان يستبعد فكرة تحويل الحركة إلى حزب سياسي في الظروف الحالية، فإنه في ذات الوقت يلح على أنها كيان سياسي وستمارس السياسة وستفعل في الحقل الانتخابي، وسيكون لها «ذراع سياسي»، وأن المستقبل مفتوح على عدة احتمالات. ومن ثمة، فإن فكرة تأسيس حزب سياسي غير ملغاة في أجندة الحركة مستقبلا، مع العلم بأن الهمة غداة مغادرته لكرسي الوزارة صرح بأن استقالته لم تملها أية أجندة سياسية وظهر فيما بعد أن تحركاته اللاحقة تضبطها فعلا أجندة سياسية، فهل كان يريد أن يقول إنه لم يكن يتوفر على أجندة سياسية جاهزة بشكل قبلي ولكنه وضعها بعد ذلك بدون أن تكون لها بالضرورة علاقة بالاستقالة. وكذلك اليوم، فتذكير الناس بأن النية حاليا غير منصرفة إلى فكرة بناء حزب سياسي، لا يعني أن النية لن تنصرف بتاتا في المستقبل إلى تأسيس حزب. وبصدد الزيارة الملكية إلى مسقط رأس الهمة ودائرته الانتخابية، هل تكون قدمت جوابا عن سؤال يقض مضجع الرأي العام ويؤرقه، انطلاقا مما قامت عليه من تفاصيل ومراسيم وثقل الحضور وحجم الاعتمادات المعلن عنها بالمناسبة؟ في مقال سابق، وتحت عنوان (حزب الدولة: الشبهة) ورد أن شبهة التحضير لتأسيس «حزب الدولة» قائمة من خلال عدد من القرائن، إلا أن «الإشكال في مثل هذه الحالة يهم ثلاثة أطراف: الشخص المعني، والقصر الملكي، والجهاز الإداري. هذه الأطراف هي التي تستطيع أن تفند تلك الشبهة»، فالأطراف المذكورة تعي بأن الرأي العام ينتظر منها أن تقدم له جوابا، وهناك أكثر من طريقة للجواب عن سؤالين متلازمين ومترادفين: هل صداقة الهمة للملك ستمنحه امتيازا سياسيا يجعله في وضعية مختلفة عن وضعية الفرقاء السياسيين الآخرين، وستضرب مبدأ المساواة في الفرص بين الجميع؟ هل تحركات الهمة تضع على الأرض مشروع حركة سياسية جديدة تابعة للدولة، وتترجم إرادة ملكية وتوفر للملك أداة جديدة لتدبير إشكالية الحكم والتأثير في المجرى الانتخابي وخريطة المؤسسات؟ قد يعتبر البعض أن هناك بعض العناصر التي تفيد بحصول جواب ضمني بالإيجاب عن السؤالين، وهي أربعة: العنصر الأول هو حصول الزيارة الملكية في حد ذاتها، وخاصة في هذا التوقيت. فنحن أمام حالة منطقة عرفت آخر زيارة ملكية عام 1973 لما دشن الحسن الثاني المركز المنجمي. إلا أن إيقاع تحرك محمد السادس وخارطة تحركاته في سائر أنحاء المغرب، تجعل من زيارة بنجرير حدثا عاديا، وصداقة الملك للهمة ليست حدثا متأخرا. قد يكون الهمة لعب دورا شخصيا في حصول القرار بالزيارة الملكية ودفع في اتجاه حصوله. وهذا في الواقع لا إشكال فيه، فمنتخبو مختلف المناطق يسعون إلى استصدار القرار بزيارة مناطقهم من طرف الملك، ولا شك أنهم يستفيدون أحيانا من ذلك ويرغبون في دعم مطالب مناطقهم ودعم أوضاعهم الانتخابية والسياسية والاجتماعية فيها. وسيكون من غير الملائم قراءة النوايا أو وضع معيار دقيق لمنع استغلال سياسي للزيارة الملكية. العنصر الثاني هو حجم الاعتمادات التي أُعلن عن رصدها للمنطقة بمناسبة الزيارة الملكية. وهكذا ستستفيد الرحامنة من 7 ملايير درهم خلال الفترة من 2008 إلى 2012 تتوزع على الأبواب التالية: التأهيل الحضري (235 مليون درهم) البنية التحتية (358 مليون درهم) الخدمات الاجتماعية (700 مليون درهم) الاستثمارات المنجمية (3,6 ملايير درهم) التأهيل الشامل لمركز بنجرير (2 مليار درهم). ويعتمد التمويل على المصادر التالية: الميزانية العامة للوزارات، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والمكتب الشريف للفوسفاط، والقطاع الخاص، والخارج. هناك من اعتبر أن تخصيص 700 مليار سنتيم، لساكنة لا يفوق تعدادها مائتي ألف، قد يخرق مبدأي التوازن والتضامن اللذين يجب أن يسودا العلاقات بين الجهات، وخاصة أن مؤسسة الرحامنة من أجل التنمية المستدامة التي أشرفت على وضع هذا البرنامج الخاص بالنهوض بمنطقة الرحامنة لم تولد إلا في 2 ماي 2008، ومع ذلك تم التعامل معها بكل هذا السخاء. فالمبلغ الإجمالي للاعتمادات «لم يتأت ضخه في أية منطقة بالمغرب لها نفس المواصفات»، حسب جريدة «الوطن الآن». فلو لم يوجد شخص فؤاد عالي الهمة ما كان ربما سيكون بمقدور سكان المنطقة أن ينعموا بمشاريع من هذا المستوى. وهناك من نبه إلى أن الحصول على التمويل الذي تقرر إفراده لتنمية وإنعاش منطقة الرحامنة، يجعلنا نكرس اتجاها عاما إلى جعل مطالب السكان، مهما كانت درجة حيويتها وملحاحيتها، محتاجة إلى «شخص نافذ في المربع الملكي» من أجل ضمان تحقيقها، وأن المؤسسات التي تؤطر السكان وحركاتهم الاحتجاجية وأحزابهم ونقاباتهم وجمعياتهم عاجزة وحدها عن تأمين الاستجابة للمطالب التي يتقدم بها السكان بدون وجود شخصية وازنة لها قدرة ذاتية على التأثير وجلب الدعم للمنطقة. وكان ذلك هو مناط الفلسفة التي قامت على أساسها الجمعيات الجهوية، حيث أُريد لها أن تكون وعاء لاستيعاب النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية من مختلف المشارب في مشروع للتضامن المحلي دفاعًا عن منطقة بعينها، حتى يتم تبديد معالم التناقضات التي يفترض أنها تخترق تلك النخب بخصوص نموذج المشروع المجتمعي الذي يهم المغاربة ككل. إننا لا يمكن أن نستكثر على مغاربة الرحامنة ما تم الاتفاق على وضعه رهن إشارة تنمية منطقتهم من مشاريع واعتمادات، فهي جزء من وطننا الغالي، وهم بدون شك في حاجة إلى ذلك وإلى أكثر من ذلك. فقط نأمل ألا يكون مغاربة المناطق الأخرى أقل حظا، لمجرد أنهم لا يتوفرون ربما على شخص بمواصفات ونفوذ فؤاد عالي الهمة، ومصدر تلك المواصفات وذلك النفوذ ليس دائمًا هو قدرة الشخص على الاجتهاد والإبداع والعمل، بل تتدخل هنا عناصر مرتبطة بظروف الحياة الخاصة التي تقود هذا الشخص أو ذاك إلى مصير معين. العنصر الثالث هو شكل التحضير للزيارة الملكية. أشارت وسائل الإعلام إلى أن فؤاد عالي الهمة هو الذي تولى بنفسه التحضير للزيارة الملكية عبر توجيه دعوات الحضور لاجتماعات تولى رئاستها لهذه الغاية، وحضرها عامل الإقليم ورؤساء المصالح ورجال السلطة وممثلو أكثر من 40 جمعية. ونبهت الصحف إلى أن العادة جرت أن يتولى العمال الإشراف على تحضير الزيارات الملكية والدعوة إلى الاجتماعات المقررة لهذه الغاية، وليس نواب المنطقة بالبرلمان أو أحدهم. يمكن التمييز هنا دائمًا بين التحضير الرسمي الذي تتولاه مؤسسات الدولة والجماعات والتحضير الشعبي الذي تتولاه تنظيمات السكان لاقتراح فقرات في برنامج الزيارة الملكية عند الاقتضاء، أو الاتفاق على الأفكار والملتمسات التي قد تُعرض على الملك أو توزيع الأدوار بين الأعضاء بصدد المهام التي تفرضها عليهم ترتيبات الزيارة... إلخ. إن وجود ازدواجية في تحضير زيارة ملكية أمر متصور مع ضرورة التنسيق في مثل هذه الحالة. أما أن يتولى شخص غير موجود في موقع السلطة التنفيذية وحده تحضير الزيارة واستنفار رجال السلطة العمومية غير الواقعين تحت إمرته رئاسيًا، هو بدون شك ليس مجرد شذوذ بروتوكولي بل قلب للأدوار وترام على اختصاصات مقررة قانونًا لجهة رسمية، وتنكر لأسس دولة القانون وجنوح عن مبدأ حيادية الأجهزة الإدارية. فالشخص الذي تعامل مع رجال السلطة بوصفهم مرؤوسين فعليين تقدم إلى انتخابات سابقة وقد يتقدم إلى انتخابات لاحقة، ولهذا يتعين أن يظل بعيدا عن كل ما يوحي بأنه يمثل في منطقته سلطة فعلية تتعدى سلطة رجال السلطة. بمناسبة الزيارة الملكية إلى بنجرير ظهر الهمة كرمز لحركة سياسية «جمعوية» مختلفًا عن كل رموز الحركات السياسية الجمعوية أو الحزبية في المغرب. إن التفوق الذي يجد أساسه في كد الشخص وعمله وديناميته لصالح السكان يُحسب له، لكن التفوق الذي يجد أساسه في حلول صاحب سلطة معنوية محل سلطة قانونية يطرح مشكلا حقيقيًا. العنصر الرابع وهو القالب البروتوكولي الخاص الذي تم فيه صب الزيارة الملكية. جاء إلى بنجرير حشد من الوزراء والضباط ورجال الأعمال وسامي الشخصيات، بثقل غير معتاد ربما في مثل هذه الحالات. يمكن أن نعتبر ذلك تشريفًا للمنطقة قبل أن يكون تشريفا للشخص. وتقدم للسلام على الملك الهمة قبل غيره، بينما العادة في مختلف المناطق أن يتقدم أولاً من «يمثل الدولة في العمالات والأقاليم والجهات»، حسب الفصل 102 من الدستور. طبعًا نستطيع التسليم بأن تدبير البروتوكول هو صلاحية ملكية مطلقة، وبأن الملك بإمكانه أن يغير فيه ما يشاء، خاصة أن الكثير من مقتضيات البروتوكول المورثة عن قرون ماضية تحتاج إلى التغيير. وطريقة السلام على الملك كما يؤكد ذلك باحثون مغاربة تعكس الحظوة التي يتمتع بها الشخص ودرجة قرابته من مصدر السلطة. وهنا لا إشكال في أن يظهر في ترتيب وفد الذين قاموا بالسلام على الملك أثر الصداقة القائمة بين فؤاد عالي الهمة والملك، والتقدير الخاص الذي يحظى به الهمة لدى عاهل البلاد، لكن كيف نجعل ذلك في السياق السياسي القائم لا يفهم على أنه إشارة إلى منح حركة سياسية ناشئة وضعية خاصة من خلال منح أحد رموزها تلك الوضعية الخاصة. وبعبارة أخرى، كيف يفصل المشاهد بين الشخص والحركة في حضرة نشاط عام للدولة. عندما يبادر الملك إلى توجيه تعزية أو تهنئة بانتخاب رئيس حزب ولا يخص بها حزبا دون غيره، فلا تُقرأ باعتبارها ستطرح إشكالاً حتى ولو كان بعث الرسالة سيقتصر على رؤساء الأحزاب الكبرى حسب ترتيب النتائج الانتخابية، إذ نكون أمام قاعدة عامة، بل إن الملك إذا ذهب إلى حد التعبير عن تقديره لخطوة إيجابية أقدم عليها أحد الأحزاب كاعتماد آلية ديمقراطية جديدة، وتقرر أن يصدر ذلك التقدير إزاء أي حزب قام بتلك الخطوة أو كان رائداً في اعتمادها، فإنه لن يُقرأ كامتياز منح للحزب المعني. المسألة إذن ترتبط بترتيب قاعدة عامة تسري على الجميع!