صدر للكاتب محمد الحاضي مؤلف قصصي بعنوان:»خبز أسود.. خبز أبيض» عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ويمتد على مدار 68 صفحة من الحجم المتوسط، محتويا على القصص التالية: aie ça pique، آلام الحروف ومصائرها، طائر البقر، ألقاب، الجبنة، الحاجة عيشة، الشرط، القنديل، بقرة الأحلام، حفلة كما في تلفزويننا تقريبا، حميدة كالو مات، حفلة، خبز أسود.. خبز أبيض، عنق ليام، فانطازيا، صور متقاطعة، فلسفة، محكيات مؤجلة . انطلاقا من نظرة فاحصة. لعناوين مجموعة»خبزأسود.. خبز أبيض» للكاتب المغربي محمد الحاضي، بما فيها العتبة الأولى، يبدو أن هذه المجموعة القصصية في انفتاح إحالي على اليومي والمعيش، مع التركيز ضمن ذلك على المفارقات. « ف«خبز أسود.. خبز أبيض» عنوان المؤلف، يلخص ثنائية ضدية، سارية على ألسن العامة من الناس، ثنائية تختصر الزمن وتصنف العباد إلى صنفين: صنف يكد على رصيف الخبز الأسود؛ وآخر محظوظ ولد وفي فمه ملعقة من ذهب كما صفاء الخبز. ورد في قصة «خبز أسود.. خبز أبيض» ص47: «بيوت الطين ماتزال هي نفسها قابعة في المكان نفسه، فقط تناسلت بكثافة، وأصبحت تتراءى لي واطئة قريبة من هامتي، سقوف القصدير المقوسة من ذاك الزمن البعيد». على هذا الرصيف اليومي لفئة عريضة، ترتع في بؤسها ويأسها أيضا، تتدفق العناوين التي تقدم حكايا صغرى، متعددة الحالات والوضعيات الاجتماعية في البادية أساسا المقذوفة إلى قدرها ومصائرها الفردية، بكامل أوهام إجماع القبيلة. .. تتعدد موضوعات هذه المجموعة بتعدد قصصها، لكنها تلتقي ضمن فضاء البادية، الفضاء الموحد. والمثير هنا، أن أغلب التيمات لصيقة بالسارد كأداة يتخفى وراءها الكاتب بلحمه وعظمه، أداة تتحدد في الطفل الذي كانه الكاتب: طفل فقير، بئيس، لعوب، ذكي.. أما من حيث علاقاته، فقد تم تسليط الضوء السردي على أسرته الصغيرة، وبالأخص الأم وهي تتابع مسيرة ابنها الدراسية، وترعى حرثها ونسلها بصبر عميق. فالسرد هنا يغرف من ذاكرة شفوية، ذاكرة محيط وصوت جماعي خارج التاريخ وخارج الكتابة أيضا؛ ماعدا الحفريات المديدة على لوح الأجساد الصغيرة التي تنفرج في هذه السردية ككوامن وعلب من الحكي أيضا. فكان الطفل حاسة ممتصة للحكي الساري على الألسن وفي أخاديد الأجساد ( الأمثال، تواضعات، حياة الدراسة، العلاقات اليومية...)؛. ومعاركا إياها كي تستقيم في عود الحكاية التي تتدفق دون مفاجآت أو تشويقات مفبركة بماكينة النظرية.. تقول المجموعة في قصة «عنق ليام» ص 55: «هب من نومه مذعورا بالكلاكسون المتواصل لسيارة البكاب.. إنه السوق الأسبوعي الذي يبعد عن دواره بحوالي عشرين كلمترا، الليل ما يزال يرتدي لحافه الأسود، ارتمى. على كومة جلبابه اليومي الحائل بجانبه.. وهرول نحو كيس القطاني وهو يستكمل التحاف الجلباب.. احتضن الكيس بين ذراعيه بكل جهده، وألقى به في عربة السيارة». هنا. السعي حثيث إلى قول الأشياء المقيمة في الذاكرة، إنه حكي بكامل الحواس . للنظر والشم أيضا. وقد يغدو هذا السرد ذا رائحة، أو قل حكايا ممرغة في الطحين اليومي للبوادي الصعبة على الهضم؛ لأنها غنية الحواشي الموصولة الميلاد بالرحم، كما يقول بدر شاكر السياب في وصفه لقريته جيكور . ... تبدو أغلب قصص هذه المجموعة ككولاجات من المشاهد؛ وما سعت إليه كل حكاية هو خلق تلك التوليفة التي يتداخل فيها السير ذاتي بالآني، اليومي بالغرائبي (الساري بين التلافيف)، الحاضر بالحنين، الفصيح بالدارج.. فبدت هذه السردية ككل هنا، كاشتباكات تتمظهر بشكل مجزئ؛ نظرا لإكراه القصة كقبضة وقوالب، بل أحيانا قد تخرج بعض القصص عن هذه القبضة، فنرى السارد يرتمي في حضن الكاتب، والمحكي له يعانق القارئ الخارجي . .. قصص «خبز أسود.. خبز أبيض» تتذكر المشاهد الموسومة بفقرها وكدها، لا لتعلنها بل من أجل تسندها لتشكيل قطب الخبز الأسود كحكاية كبرى وبكامل الوهم ترافع باسم الفقراء. التذكر هنا مرادف للتلذذ. بمساحات لصيقة بالنبض كرغيف الأمهات ودفئهن ولو تحت الصخرة. ورد في قصة «فانطازيا» ص57: «.. وفي الحقل المجاور، بعض سنابل القمح المشاكسة سبقت إلى الخروج من تيجانها،.. الولدان الراعيان يلعبان، جريا، قفزا، تمرغا، تعاركا، صياحا.. وسوس الربيع في شيطان برعمهما فراودت نفسها أشواق النسغ الطري للتواطؤ المقايض على لعبة العرائس بين ستائر البساط الأخضر».. فكلنا يعرف الفقيه وشرطه الطويل والمقنع، الأم وعذاباتها الملونة، الطفل الذي كناه في المدرسة وفي الحياة، البادية الطاوية على نعاجها وأطفالها السارحين معا، ليس في شعاب اللغة، بل على الأرض.. .لكن أن يسري ذلك حكيا ،فيتمظهركلوحات وتشكيلات قد تحافظ على طراوتها وسخونتها بلغة محمد برادة؛ تلك هي قدرة الأدب ودرجات تصويره ومحتمله. وهو المتحصل هنا، بلمسات من الشاعرية والسخرية والرسم بواسطة الصورة، ضمن تداخل بين الدارجة والفصحى، أو قل البحث عن لغة ثالثة بالمعنى الأدبي . هجينة بتعدد شبيهي، أي موجه من قبل السارد الواصف. ولعل الهدف من هذا الرصد هو إثارة السؤال المخلخل حول الكثير من الأشياء التي تعودنا على بلعها كما بصلنا اليومي الذي «يبصلنا» على مهل .