صدر عن المطبعة السريعة بالقنيطرة مؤلف قصصي بعنوان «موال على البال» للقاص مصطفى لكليتي. ويمتد هذا الإصدار على مدار مائة وست صفحات من الحجم المتوسط، محتويا على ثمانية عشر نصا منها: أين يذهب الرفاق؟، حكاية بذيل ورأس مقطوع، حكاية عن رأي واسع النظر، امتداد الظل المنكسر، ككل صباح، الميكانيكي، موال على البال... تعدد العناوين، وتتعدد معها مواضيع هذه المجموعة، ويمكن تصنيف ذلك إلى ثلاث خانات إجرائيا فقط، الأولى تضم قصصا على لسان حيوانات، والثانية تحتوي قصصا ممركزة حول شخوص توهم بالواقع أكثر، والثالثة أتت على ضمير المتكلم كسارد يعبر عن وضعيات وحالات الضيق بالأساس ؛ داخل عالم يضيق ويتسع، تبعا للحالة وحمولتها. أتت بعض القصص كما أوردنا سابقا، مشخصة بالحيوان لكن بمنطق إنساني. وهي تقنية سردية ليست غربية على تراثنا العربي الحكائي. ويلجأ هنا الكاتب إلى أنسنتها وتقديم عالمها (الغابة) المفتوح على عالم الإنسان وتراتبيته البيروقراطية. تقول قصة «الإرهابي»: «كان الاجتماع حاشدا وحاسما، وتمطى وقت النقاش، وتبادل وجهات النظر واستطال. وشوشت كليلة لدمنة : حقا الفأر الغريب بات خطرا ماحقا يهدد سلامة الأمن الداخلي للغابة. واصلت نقها بنبرة لحوح: ولكن الريبة تتملكني ولا أصدق كل الروايات..» إنه تشخيص شبيه بعالم الإنسان، المبني على المفارقات والعلاقات الاستبدادية وما يقتضيه ذلك من مناهضة أو تبرير أو تحايل.. في هذه الحالة، تكون الحيوانات عبارة عن شفرات يمكن فكها على ضوء التحولات الراهنة، نظرا لحضور علامات تشي بالانتماء لهذا العصر كالهاتف المحمول وأدوات الإيصال الإلكترونية. الغابة هنا هي سقف الحيوان، لها سننها ومجلسها ولها قسمتها أيضا. وهي محاورة لمجتمع الناس الغاص بالتنظيم المحافظ على تنظيمه. ورد في قصة «حكاية عن رأي واسع النظر» : قالت دمنة لكليلة نافثة دخان سيجارتها راشفة بين الآونة والأخرى حسوة قهوتها السادة : وأين بقية حكايتك يا كليلة؟ أجابت كليلة قائلة وأوراق ملف مفرودة على مكتبها: علينا أن نهيء جميع الملفات المطلوبة، قبل أن يعلن رسميا عن خبر انعقاد مجلس الغابة». أما في خانة القصص اللصيقة بضمير المتكلم وهو يقدم حالات نفسية مطبوعة بالتوتر والأرق داخل الحياة والمتناقضات، ويغلب ظني، أنها حالات مثقف شغوف بالعالم في الحكاية على مرأى من أسلاف الحرف المتعدد النقرات وزوايا النظر من أمثال المعري والمتنبي وشهرزاد.. ورد في مجموعة «موال على البال» على سبيل التعضيد: «كانت امرأة أيامي تعيد النظام على فوضى المكتبة، وترتيب الكتب السائبة في الرفوف .. ألفيت المعري والمتنبي.. وحتى العزيزة شهرزاد يختلسون النظر إلى كاظمين هدير ضحكة حبيسة، في حين نشأت أتملى المكتبة، فأخال أني أنظر إليها أول مرة، ورغبة عارمة تدفعني إلى أن أعانق العالم خارج الغرفة». تسوق مجموعة «موال على البال» حالات ووضعيات متناقضة لشخوص تلتقي في مشتركها اليومي، وتختلف في مجاراته ومعايشته عبر ذاك القاع الصاخب الذي قد يمنح رؤيا كرنفالية للعالم على حد تعبير ميخائيل باختين . يعتني القاص مصطفى لكليتي في هذه المجموعة، بمعمارية الحكاية وترتيبها عبر مدخلات ومخرجات معية. لكنها تحبل بتحويلات غرائبية تسمح بذاك التوالد الحكائي الذي ينكسر عبر نهايات صدامية. فقصص لكليتي تمتص المفارقات وتعيد بناءها، فتتعدد أشكالها المفتوحة بقوة الإحالة على اليومي وجريه . تبدو حكاية كل قصة مضغوطة عبر تكثيف سردي، متمثل في جمل قصيرة تورد الأفعال المتسارعة أو قل زمن سريع في الحكي، تبدو معه الحكاية لاهثة كما شخوصها الباحثة عن ملاذ أو متكأ. وتم ذلك بإيحائية سمحت بتدفق النفس الشعري الذي يقضم خشونة واقع ولغات عبر حوار تصعيدي يخلق الحبكة والمجاري الخلفية عبر أغوار نفسية . كما تحضر السخرية كتقنية تعبيرية عبر شعرية القلب السارية في تلافيف، وأحيانا تنتصب حول وضعية أو موقف. فالسخرية في السرد، قد تتشكل كملمح سردي، من سماته هنا التكثيف والتلميح؛ هذا فضلا عن الترميز الذي يقتضي من القارئ مشاركة فعالة في البناء الدلالي للنص.