حصرت السلطات عدد الجثث المكتشفة بالمقبرة الجماعية بمقر القيادة الجهوية للوقاية المدنية بالناظور في 16 جثة. وأوقفت أشغال الحفر التي كان قد بدأها عمال شركة بناء خاصة داخل هذا المقر لإنجاز مستودع تحت أرضي خاص بوسائل النقل التابعة للوقاية. وقال مصدر طبي إن عدد الجثث التي تم الإعلان عنها يتطابق مع ما سبق أن أعلن عنه الراحل الحسن الثاني بعد أحداث 19 يناير 1984 من أن عدد الضحايا لا يتجاوز 16 قتيلا. في حين تساءل مصدر حقوقي عن أسباب إيقاف عملية الحفر، داعيا السلطات إلى إشراك الفعاليات الحقوقية بالمنطقة لمتابعة أطوار هذه القضية. وشكك المصدر في أن تكون الجثث بالمقبرة محصورة في هذا العدد. ورفض مسؤولون بالوقاية المدنية السماح ل«المساء» بالوصول إلى مكان المقبرة، مؤكدين أن الأمر يحتاج إلى ترخيص إداري. كما رفضوا إعطاء أي توضيحات بخصوص هذا الموضوع. وكان مقر الوقاية تابعا، في فترة الأحداث، للقوات المساعدة. وتم الاحتفاظ بالجثث المستخرجة بمستودع الأموات التابع للبلدية والذي يوجد داخل المستشفى الحسني بالمدينة ذاتها. وحلت بالمستشفى طبيبة شرعية من الدارالبيضاء عينتها وزارة العدل لمتابعة الملف، في حين تقاطرت أعداد من العائلات على المستشفى لإجراء التحاليل على الحمض النووي للتعرف على هويات الضحايا. وقال المصدر الطبي إن بعض الملابس لا تزال عالقة بالضحايا. وذكر أنه لوحظ اختفاء أحذيتهم، مما يوحي، في نظره، بأنه تم نزعها قبل عملية الدفن الجماعي. المصدر ذاته أورد أن عملية التعرف على هويات الضحايا لن تستغرق وقتا كثيرا. ومن المنتظر أن تعمل السلطات على إخبار العائلات بالجديد في الأسبوع القادم. لكن المصدر أكد أن عملية إعادة تركيب الجثث ستكون أمرا صعبا لأنها اختلطت ببعضها البعض. وفي السياق ذاته، بدأت الشرطة القضائية يوم الخميس الماضي باستدعاء بعض عائلات الضحايا عبر الهاتف. الشرطة القضائية بالناظور لم تشر إلى موضوع الاستدعاء، خصوصا وأن بعض عائلات الضحايا تتخوف من أن تكون للموضوع علاقة بتصريحات أدلت بها للصحافة بعد هذا الاكتشاف. المقبرة وخطاب الحسن الثاني بكى أحد أفراد عائلات الضحايا لما سألته «المساء» عن خطاب الراحل الحسن الثاني بعد الأحداث. وقال إن سكان المنطقة لم يكونوا ينتظرون أن يكون الخطاب بتلك الدرجة من السخط على هؤلاء السكان. المصدر أشار إلى أن الخطاب بقي عالقا بذهنه ذلك المساء وهو يشاهد التلفاز رفقة عائلته، مشيرا إلى أن الحدث حوّل البيت إلى عزاء. الأم بكت ودعت أبناءها إلى جمع رحيلهم لمغادرة المنطقة. أب، ضحية أخرى، أصيب بأزمة عصبية لم يشف منها إلى حدود الآن. وعائلات أخرى تقول إن القمع والحصار والضرب والقصف الذي تعرضوا له كان أهون من خطاب ملكي نعتهم بالأوباش. ومما جاء في خطاب الملك آنذاك:«.. فهل أصبح المغاربة يا ترى طائشين حتى عدنا الآن إذا أتت الرياح تعصف بنا كريشة في مهب الريح طائشة؟ فهل وصلنا إلى هذا الحد؟ وصلنا إلى هذا؟ بماذا؟ إما بواسطة الأطفال أو الأوباش، الأوباش في الناظور والحسيمة وتطوان والقصر الكبير. الأوباش العاطلون من الذين يعيشون بالتهريب والسرقة، واستعملوا في مراكش، كما هو الشأن عند جميع المشاغبين، الأطفال الصغار في مقدمة المظاهرات، علما منهم أن الشرطة إذا كانت ستقوم بعملها أمام مظاهرة يصعب عليها ضرب الأطفال أو إلقاء القبض عليهم أو مهاجمتهم، فها أنا ذا أقول لكم إن هؤلاء الأوباش تم اعتقالهم ويجب على الأطفال والطلبة والتلاميذ أن يعلموا أن المعيشة ارتفعت بسببهم لأن الطفل المغربي منذ أن يولد وينمو إلى أن يدخل المدرسة العليا وهو يتلقى تعليمه بالمجان، وإذا أردت أن أنقص ولو من نصف ميزانية التعليم فأقسم بالله الذي لا إله إلا هو أنه يمكنني أن أخفض من أثمان المواد الغذائية». الراحل الحسن الثاني أضاف: «إذن نتيجة هذا كله هو انه، أولا، هذه عمليات خارجية أجنبية حاولت أن تقوم باضطرابات في هذا البلد، فماذا استعملت في ذلك، أخذت كمطية الإدعاء بأن الأثمان سترتفع، والحالة أنني في خطابي الأخير قلت لكم أنني أقرب الناس إليكم، وأنني بصدد القيام بإحصاء وإنني لم أعد أطيق أن اطلب منكم القيام بأي مجهود وخاصة أفراد الطبقة الشعبية الضعيفة، وأن السكين بلغ العظم، وأنني أقوم بإحصاء لكي أعرف بالضبط ما الذي يمكنني أن أقوم به في هذا الباب، والآن قد انتهت عملية الإحصاء، وبمجرد ما اطلعت على أرقام الإحصاء، قررت ألا تكون هناك زيادة في الأثمان. ويذهب الملك في الخطاب ذاته إلى القول:» وسكان الشمال يعرفون ولي العهد، ومن الأحسن ألا يعرفوا الحسن الثاني في هذا الباب، عليهم أن يعرفوا الحسن الثاني الذي ألفوه، أما أنا فأعرف أنهم لا يعرفونني بكيفية عامة». كيف بدأت الأحداث؟ يقول عبد السلام المرابط، أخ الضحية نجيب المرابط الذي كان ساعتها يبلغ من العمر 14 سنة، إن الأحداث بدأت بتظاهرة للتلاميذ والطلبة ضد ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. وأضاف أن هذه التظاهرات تزامنت مع زيادات في أسعار الزيت والسكر. ويضيف المرابط أن السكان انضموا بتلقائية إلى هذه التظاهرات. وعلى الساعة الثالثة بعد الزوال من يوم الخميس 19 يناير 1984، بدأ تدخل رجال الدرك وقوات الجيش، وطوقوا المدينة كلها. وامتلأت الشوارع بالدبابات وكان إطلاق الرصاص يتم في كل اتجاه. البعض نجا بأعجوبة من الرصاص والبعض لجأ إلى الجبال، لكن طائرات الهيلكوبتر تبعت الفارين وكانت لهم بالمرصاد عبر إطلاق الرصاص. وقال إن الدماء في تلك الأحداث التي استمرت خمسة أيام متتالية قبل أن يعود الهدوء النسبي إلى المنطقة، كانت تملأ الشوارع، وسيارات الإسعاف وجدت صعوبة في نقل المصابين والموتى إلى المستشفى. وذهب مصطفى الهواري في نفس الاتجاه، قائلا إنه لم يتمكن من إنقاذ أخيه عبد الخالق الذي نقل على وجه السرعة إلى المستشفى لتلقي العلاجات الضرورية بعد إصابته بطلقات نارية، وكان يبلغ في عمره آنذاك 25 سنة، قبل أن يلفظ أنفاسه، طبقا لرواية بعض الممرضين له، بسبب نقص الأوكسجين. الهواري يقول إنه رأى الكوارث بالمستشفى: مصابون مضرجون في الدماء ومكومون في قسم المستعجلات. وأضاف أنهم منعوا من الدخول إلى هذا القسم وتُرك أفراد أسرهم دون أن يعلموا عنهم أي شيء إلى حد الآن، منذ تلك الفترة. ويعود المرابط عبد السلام إلى القول بأن أخاه نجيب ذا ال14 ربيعا كان في طريقه إلى مؤسسته التعليمية قبل أن يختفي إلى حد الآن. «لقد قيل لنا إنه قتل، لكن أين جثته؟ ومن سيعوضنا عن هذا الطفل الصغير؟ ومن سيعوض أمه التي ماتت كمدا عليه؟». ويضيف المرابط: «أخي لا يزال حيا في دفتر الحالة المدنية. وعلى السلطات أن تسلمنا الرفات وشهادة الوفاة لندفنه ونقيم مراسيم التعزية. أما النسيان، فلن ننسى أبدا». ويحكي عبد الدايم عبد السلامة، أخ الضحية مصطفى عبد السلاما، أن أخاه قتل أربعة أيام بعد اندلاع الأحداث أمام باب بيت العائلة. ويروي بأن الدبابة حاصرت البيت وطالب رجال الدرك بإخراجه، مهددين بقصف العائلة كلها. ولما خرج أطلقت عليه طلقات نارية أردته قتيلا على الفور وحمل إلى مكان مجهول، فيما الأم هرعت إلى المكان حيث خر الضحية صريعا وبدأت في النحيب وفي التمرغ في بركة الدماء التي خلفها وراءه. مسؤول حقوقي : هناك مقابر جماعية أخرى محتملة بالناظور يعتقد شكيب الخيار، رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان، أن هناك مقابر جماعية أخرى محتملة في الناظور، ويوضح ل»المساء» أن اكتشاف المقبرة الجماعية بالناظور يرجع بالأساس إلى نضالات هيئات المجتمع المدني بالإقليم والتي أصرت دوما على مطلبها بفتح المقابر الجماعية المفترضة بالمنطقة والتي تعود إلى فترات تاريخية مختلفة، سواء تلك التي أحدثتها الدولة أو بعض الأحزاب المسماة «وطنية». وبخصوص المقبرة المكتشفة حديثا، فإن الأمر يتعلق فقط ب16 ضحية، في الوقت الذي تتحدث فيه الهيئات الحقوقية التي اشتغلت على الموضوع بالمنطقة عن وجود أزيد من 100 شهيد، حيث نتوفر في الجمعية والمنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف بالناظور على شهادات حية تؤكد ذلك وتحدد مكانها بالضبط في الثكنة العسكرية بتاويمة. ومن ثمة، فإننا الآن بصدد دراسة الملف وفق المعطيات المستجدة، حيث إننا نعقد لقاءات مع عائلات الضحايا ونستكمل بحثنا عن مجموعة من الأشخاص المفترض أنهم شاركوا في أشغال حفر المقبرة الجماعية بالثكنة العسكرية بتاويمة والذين سبق أن التقينا بأفراد من أسرهم الذين أكدوا لنا الأمر.