غزتِ المحلات التجارية والبوتيكات، التي تعرض الملابس ومنسوجات الجسد، كائنات ممشوقة القد والقوام، تزدهي بملابس أنيقة، تتغير ألوانها وتصاميمها بتغير الفصول وتبدل الأذواق، تبعا للصيحات العالمية ورغبات مصممي الشركات الكبرى، الذين ينسجون القيم الجمالية ويروجون لها في التلفزيون والديفيليات ومجلات الموضة واسعة الانتشار. لم يعد الإنسان يهتدي وحده إلى ما يستر الجسد ويضفي عليه الدفء والأناقة وشرعية التجمع والسياحة في الأماكن العامة، بل أصبح يخضع لمشيئة صناع الذوق ومتدخلين آخرين، اهتدوا إلى ابتكار عارضات أزياء اصطناعية، أثثوا بها واجهات متاجر اللباس، فأصبحت تتنافس على الأناقة، إلى درجة أنها شكلت مجتمعا مخمليا مرفَّها، يوتر الهمس، والنظرات الموحية والابتسامات العذبة المندلقة من أعذب منابع الحياة. ما من شك في أن الناس يذهبون إلى التسوق مستأنسين بأرواح هذه المانيكانات التي تغمر المكان وتُغرقه في هالة من السحر والفتنة، وما من شك في أن الكثير من النساء يحسدن هاته المانيكانات على القوام الرشيق والذوق المرهف، في انتقاء قطع اللباس المناسبة واختيار القبعات الدافقة بالحس التي تضفي على مظهرهن جاذبية لا تقاوم. هذه الكائنات الأنيقة أصبحت، في الواقع، جزءا من فضاءاتنا العامة، جزءا من وجوه صارت لدينا مألوفة ومحببة، تغمر طريقنا بالدفء، كلما عبرنا الشارع باتجاه مقهانا المفضل. هذه الكائنات الهشة، الوديعة، التي كانت تتجنب، قدر الإمكان، ولوج الفضاءات الشعبية، كما كانت، حتى الأمس القريب، تنعم بالأمن والدلع والسكينة، بدأت اليوم تقلق من وجود بعض المؤشرات السلبية التي تدل على أن حريتها وحياتها وسلامتها الجسدية أصبحت مهددة، ليس بفعل التحرش والنظرات الداعرة للبعض، ولكن بفعل تضايق بعض الفتاوى المتطرفة التي أصبحت تجد في حضورها تبرجا يخدش الحياء العام وفتنة تكرس ثقافة التصوير والتجسيد. لا أعرف كيف يَسُوق بعض إخواننا في المشرق السيارة دون الإحساس بالذنب، ولا كيف يركبون هذه الجرادة الطائرة دون الشعور بالخطيئة. إن العقل الذي يُصدر فتوى في دمية، لمن المنتظَر أن يفعل ذلك مع كل آلة تتحرك، بدعوى المنافسة في «الخلق». لذلك فمن المنتظر جدا، بعد فتوى بتر المانيكان، أن تصدر فتوى إسقاط محرك السيارات والاعتماد على الدواب في جرها. سيبقى عندنا مشكل مع الطيران، ولكن لا بأس، في هذه الحالة، من إعادة تجريب وصفة عباس بن فرناس، مع تطعيمها ببعض التوابل التي تسمح بها مختبرات الحداثة، شريطة ألا تفظي في النهاية إلى الارتفاع عن سطح الأرض. وأنا أقرأ خبر فتوى المانيكان، تذكرتُ بحزن محبوبة بطل شاب، فقير وعاطل، في قصة لزكريا تامر بعنوان «رجل من دمشق». ولم تكن هذه المحبوبة غير فتاة من شمع أو جبص:» إنها فتاة رائعة، تقف باستحياء في واجهة محل لبيع الملابس النسائية، وكم يأسرني هذه التعبير الغامض الذي يظلل وجهها الشاحب، والذي هو مزيج من الوداعة والكآبة العميقة. وقد اخترتُ لها اسما ذا رنين موسيقي: سوزي»، هكذا يصفها الشاب المغرم. كُتبت هذه القصة في الخمسينيات، لذلك أتصور أن سوزي الآن أصبحت جدة، وصار لها حفيدات تخشى عليهن من زمن صعب، تنكَّر لكل الأحلام والإيحاءات والاستيهامات التي غذت بها خيال الإنسان العربي الجريح.