إن الحدث المشار إليه هو أكبر عملية فرار جماعي من السجن تتم بنجاح في تاريخ المغرب المستقل، ويفترض في منفذيها مبدئيا، بحكم العقوبات المحكوم بها عليهم، أنهم يمثلون مجموعة خطرة، فالعقوبات الصادرة في حقهم هي الإعدام والسجن المؤبد والسجن عشرين سنة. وعملية بهذا الحجم والدقة وهذه النوعية من المعتقلين، تضع مختلف الأجهزة الساهرة على الأمن وحراسة السجون في وضع لا تحسد عليه. ففي لحظة يتسع فيها الحديث الرسمي عن جدية المخاطر التي تتهدد الأمن، كان لا يجب أن تظهر الأجهزة المذكورة في صورة العاجزة عن إفشال محاولة الهروب والقضاء عليها في مهدها والانتباه إلى الترتيبات التي سبقتها. لقد حصلت العملية، كما لو كان السجن منطقة خلاء، لا حارس فيها ولا مراقب ولا رجل أمن ولا مخبر ولا ممثل للقانون والنظام، رغم أننا حسب المتداول والمعروف سابقًا، أمام مؤسسة سجنية خاضعة لنظام صارم، وأمام معتقلين تترصدهم في الأصل بدون انقطاع أعين الرقباء من مختلف الأجهزة وتباشر تتبع حركاتهم وسكناتهم. وسواء تم القبض على الفارين أم لا، فإن حدث الهروب شَكل نقطة ضعف استخباراتية وأمنية بارزة، وستحتاج الإدارة السجنية والأمنية إلى بذل الكثير لتدارك الشرخ الذي أصاب صورتها واسترجاع زمام المبادرة، ولذلك يتعين القيام بسلسلة من الإصلاحات الرامية إلى تدارك الاختلالات التي تسببت في حصول مثل هذا «الهروب الكبير». وتدل المعطيات التي عرضتها الصحافة أن عملية الهروب خضعت لخطة محكمة ولدرجة عالية من الإتقان. فقد تم حفر نفق طوله 23 مترًا باستعمال أدوات حديدية وبعض أواني المطبخ، وتم تجميع التراب في عشرات الأكياس التي تركت بالغرفتين اللتين انتقل منهما الفارون إلى حديقة بيت مدير السجن، حيث نفذوا من خلال ثقب في نهاية النفق بالحديقة إلى مكان قريب من الجزء المنخفض من حائط السجن الذي يبلغ طوله ثلاثة أمتار تقريبا. ونجح الرجال التسعة في تسلقه، والعبور إلى خارج السجن. وتمكن هؤلاء من استعمال آلة لتوفير التهوية بالنفق أثناء الحفر ومصباح للإنارة. وقدرت المدة التي خصصت للحفر بأربعة إلى خمسة شهور. وجدير بالذكر أن بعض الفارين سبق له التواجد بأفغانستان، والخضوع لتدريبات على عملية حفر الخنادق. ويثير البعض احتمال أن يكون النفق المستعمل قد شرع في حفره قبل سنوات، وتولى الفارون من عناصر ما يسمى بالسلفية الجهادية إكمال عملية الحفر التي بدأها معتقلون آخرون. كما ذكرت التحقيقات الصحفية المنجزة عن حدث الهروب، أن الفارين توفرت لهم تصاميم كاملة عن الأبنية وما يوجد تحتها، مما مكنهم من رسم مسار النفق بشكل جيد ودقيق، وساعدهم اهتراء تلك الأبنية وقدمها. ومن العناصر المثيرة في هذه العملية التي أجمع تقريبا كل من تناولها بالكتابة والتعليق على أنها تشكل مادة نموذجية لفيلم سينمائي، أن الكلب الذي يتواجد عادة في حديقة مدير السجن، اختفى قبل مدة قليلة من عملية الهروب، بعد أن ظهرت عليه علامات المرض فتم «التخلص منه». فهل يكون أحد الشركاء قد ناول الكلب مثلاً، بصورة متعمدة، طعامًا به مواد أو سموم تسببت في مرض هذا الحيوان. ثم إن الفارين لجؤوا بصورة جماعية إلى حلق لحاهم وارتداء ثياب أخرى لتغيير هيأتهم بصورة جذرية قبل اجتياز حائط السجن. كما تم اعتماد تقنيات أخرى للتمويه وإخفاء ترتيبات التحضير وللتواصل بين الزنزانتين والاكتفاء باستعمال مرحاض زنزانة واحدة فقط، مادام الحفر قد بدأ تحت مرحاض الزنزانة الأخرى. وبالنسبة إلى شخصيات العناصر الفارة: فهي عناصر شابة، ولها مسارات مختلفة، فلا تنتمي جميعها إلى شبكة واحدة، فمن الفارين من زار أفغانستان ومنهم من لم يزرها، ومنهم من اتهم بالمشاركة في أعمال قتل ومنهم من اتهم بالتخطيط فقط لأعمال إرهابية. فبعضهم مثلا اعتبروا، حسب محاضر الضابطة القضائية، أعضاء بخلية يوسف فكري الملقب بأمير الدم، والذي أدين بتنظيمه لعمليات قتل، ومنهم من اتهم بالتورط مباشرة في أحداث 16 ماي 2003، ومنهم من اتهم بوقائع تعود إلى تاريخ سابق عن 16 ماي 2003. معظم الفارين أدينوا بتهمة الانتماء إلى خلايا إرهابية نفذت وخططت لعمليات إرهابية، ولكنهم كأشخاص ليسوا فاعلين مباشرين لتلك العمليات بل مشاركين فيها، إذ أن هناك مجموعة أخرى من المعتقلين تعتبر أخطر من المجموعة الفارة وتقيم بمكان آخر في السجن. أغلب الفارين إذن يعتبرون العقوبات الصادرة في حقهم قاسية. كل الفارين لهم مستوى تعليمي متدن. وبحكم ألوان التعذيب التي تلقوها خلال اعتقالهم، فيخشى أن يعمدوا، إذا ما توفرت لهم الظروف إلى حمل أحزمة ناسفة ليفوتوا على القوات الأمنية فرصة اقتناصهم أحياء. وهذه إحدى مساوئ التعذيب الممارس في معتقلاتنا، والذي يؤدي في مثل هذه الحالات إلى ضياع معلومات قد تكون على جانب كبير من الأهمية. رد فعل السلطة بعد حادث الفرار، تراوح بين الإخبار المجرد من التفاصيل، والإشارة العامة إلى احتمال تورط جهات من داخل وخارج السجن، ومباشرة سلسلة كثيفة من الاستجوابات والتفتيشات والمداهمات والتضييق على بعض الحقوق المكتسبة لسجناء «السلفية الجهادية». وهكذا تم تقليص مدة الفسحة، وتشديد عمليات التفتيش، وتبكير مواعيد إغلاق الزنازين، وتوسيع مجال الحراسة لتشمل حتى المراحيض. وهناك من تحدث عن نقل بعض «زملاء» الفارين إلى مركز تمارة الشهير من أجل استنطاقهم في محاولة للتوصل إلى تحديد الوجهة التي قصدها الفارون. هناك فريق من المعلقين على حادث الفرار، ربط بين الحادث و»الامتيازات» التي يتمتع بها معتقلو السلفية الجهادية في السجون المغربية، بل ذهب البعض إلى حد التصريح بأن هؤلاء المعتقلين قد احتلوا المؤسسات السجنية وأصبح من الصعب على الإدارة السجنية «اختراق» هذه المؤسسات، وغدا الحراس «ممنوعين» من ولوج الزنازين (الأحداث المغربية ع 3349 – 9 أبريل 2008 – ص3 – الصباحية ع 187 – 9 أبريل 2008 – ص 3)، أي أن الحل حسب ذلك الفريق يكمن ربما في فرض المزيد من التشدد، وتشذيب «التزيدات» الرحيمة في شجرة التعامل. والقضية هنا يجب أن ينظر إليها في ضوء المعايير الدولية لمعاملة السجناء، فكل ما تلاءم مع تلك المعايير لا يعد «امتيازا»، كما أن ممارسة الحفاظ على أمن المؤسسات السجنية وفق ضوابط لا تهدم أساس المعايير المذكورة سابقا ولا تتسم بالشطط، تعتبر جزءا من مسؤولية الإدارات السجنية. ترك الفارون رسالة مكتوبة على جدار إحدى الزنازين، جاء فيها: «لا للظلم، فهو ظلمات يوم القيامة، سلكنا كل السبل، وطرقنا كل الأبواب دون جدوى، فلم يبق لنا سوى هذه الوسيلة، نتمنى أن تتفهموا الأمر، فلن نؤذي أحدا إلا إذا آذيتمونا، نريد حريتنا فقط، كما نتمنى أن لا تكرروا أخطاءكم السابقة، وسياسة العقاب الجماعي، وتحميل المسؤولية لمن يتحملها فقط، فنحن من يتحملها فقط، ولا دخل لسجين بريء ولا لموظف بسيط، ونعتذر لكم عن الإزعاج، هذا هو الحل». وهكذا نرى أن الرسالة تتضمن العناصر التالية: أولا: التنديد بالظلم، والتذكير بالجزاء الذي ينتظر ممارس الظلم يوم القيامة. إذن يشعر الفارون بالظلم، فهل هو ظلم الاعتقال أي أن هذا الأخير ما كان يجب أن يحصل في حالتهم، أم أن الأمر يتعلق بالظلم الناجم عن ظروف الاعتقال. للإشارة، فإن إحالة معتقلين على سجن القنيطرة المركزي، بينما كانوا موجودين بعين البرجة حيث ظروف الهرب أسهل، وإبعادهم عن أماكن تواجد عائلاتهم، ربما عمق معاناة هؤلاء المعتقلين. ثانيا: الإشارة إلى طرق كل الأبواب، أي أن طلبات للعفو ربما تكون قد وضعت لدى السلطات المسؤولة، لكننا لا نعلم ما إذا كانت تلك الطلبات قد أرفقت بمراجعات والتزام بالتخلي عن المشروع الأصلي للمعتقلين أم لا؟. لا يمكن منطقيا أن يقابل كل طلب للعفو بالاستجابة الأوتوماتيكية، بدون بحث الظروف والحيثيات التي تجعل مصلحة المجتمع أيضا لا تُضار بهذا الإجراء. لكن المشكل في المغرب أن العفو أحيانا يأتي لتصحيح مسطرة قضائية لم تحترم فيها قواعد المحاكمة العادلة! ثالثا: طمأنة السلطات إلى أن الفارين ليست لديهم أجندة مخططات إرهابية. لكن البعض اعتبر ذلك مجرد تمويه، فاحتمال القيام بأعمال إجرامية من طرف الفارين وارد جدا حسب هذا البعض، بل هناك من حدد الهدف أو الأهداف المقبلة (زوجة عبد الهادي الذهبي!). لكن إذا كان الفارون ينوون القيام بعمليات مقبلة في المغرب، فلماذا اتجهت الكثير من التحليلات إلى ترجيح احتمال التحاقهم بالجزائر للعمل في تنظيم القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي؟ فالأصوب ربما هو اعتبار أن كل الاحتمالات ممكنة. رابعا: التنبيه إلى ضرورة عدم تكرار الأخطاء السابقة التي ارتكبت في إطار الحملة الواسعة على أنصار «السلفية الجهادية». وتشير الرسالة إلى أحد أكبر تلك الأخطاء وهو «العقاب الجماعي وتحميل المسؤولية لمن لا يتحملها». من الصعب أن يشاطر الديمقراطيون كتاب الرسالة منظورهم ل»الأخطاء»، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن التجاوزات المسجلة في حملة ما بعد 16 ماي تحتاج على كل حال إلى وقفة وطنية لبحثها ودراستها وتحديد سبل عدم تكرارها، وهي تجاوزات على درجة من الجسامة والخطورة تتطلب مثل تلك الوقفة. خامسا: محاولة الإيحاء بأن عملية الفرار لم يشارك في تسهيلها أي شخص آخر، وهذا ممكن، ولكنه احتمال بعيد جدًا. فحجم العملية ودقتها يفيدان العكس. سعى الفارون إذن عبر رسالتهم إلى تبرئة ذمة العاملين بالسجن وبقية زملائهم. ولكن هذا لا يعني أن كل من زودهم بمساعدة ما في تنفيذ مخطط الهروب كان على علم بالمخطط. قد تكون المساعدة تمت بمقابل مالي، فالأوضاع الاجتماعية للعاملين بالسجون متردية، وهم يعاينون حصول فساد إداري تشير إليه تقارير المرصد المغربي للسجون، ويعملون في إطار مديرية بلا مدير، وكل شيء ممكن تسريبه إلى داخل السجن بما في ذلك البشر (الفتاة التي أُدخلت إلى زنزانة أحد السجناء داخل كيس!). ولكن أخطر احتمال يواجهنا في مثل هذه الحالة، هو أن يكون الإهمال أو التواطؤ أو التغاضي الذي صدر، منبعه نوع من التعاطف الذي نشأ مع معتقلي «السلفية الجهادية» من طرف بعض العاملين في السجون، والذين وجدوا أنفسهم مندفعين إلى استحسان شيء ما في ظاهرة السلفية الجهادية بالسجن، رغم أنها في الأصل ظاهرة تقوم على فكر يعادي العقل والحداثة والتقدم، وعلى إيديولوجية تمجد القتل والتكفير وترفض التعايش، وعلى نظرة ماضوية منغلقة. إن إنسانا يتولى نظريا باسم المجتمع الإشراف على إيقاع جزاء عام بمجموعة متهمة بتهديد السلم داخل هذا المجتمع، لا بد إذا تعاطف معها، أن يكون قد «اكتشف» جديدًا لم يعرفه من قبل عنها. فإما أنه اقتنع ببراءة بعض أفراد المجموعة، أو اقتنع بحسن سلوكهم داخل السجن أو اقتنع بخطابهم، أو تأثر لمعاناتهم... والمطلوب إذن، أن نوقف عجلة الظلم القضائي الذي قد يسوق بعض الأبرياء إلى زنازين السجون، وأن نهجر كل أشكال التعذيب والتنكيل بالمعتقلين. فمن حق ضحايا الظلم دائما أن يكون لهم متعاطفون. أما الإغراء الذي قد يكون الخطاب الجهادي قد مارسه على هذا الفرد أو ذاك، فهو يدعونا إلى دراسة الهشاشة الفكرية والاجتماعية التي سمحت لذلك الخطاب بالتأثير على الناس. لن يتحول كل شخص خضع لهذا التأثير إلى إرهابي طبعًا، ولكن هذا الشخص قد يستصوب بعضًا مما يدخل في «خانة الإرهاب» أو يمارس على الأقل حيادية إزاء منفذيه. بينما المطلوب في كل مجتمع أن يتعبأ أفراده، سواء كانوا في مواقع المسؤولية أم لا، لمناهضة كل نزعة إلى ضرب السلم المدني. وبلا شك، فإن الناس الأكثر استعدادًا لتقبل الخطاب السلفي الجهادي أو التجاوب معه، يوجدون عادة في صف المغاربة الذين يعانون من قصور في فهم الدين على وجهه الصحيح، والذين يحملون ترسبات خرافية، والذين يشعرون بأنهم ضحايا ظلم ما، والذين ينظرون إلى الدولة وبقية المجتمع باحتراس وحيطة مصدرهما التهميش الذي يطالهم، والذين يعتبرون أن مظاهر الفساد فاقت كل الحدود، وأن كل المؤسسات غير جادة في محاربته أو عاجزة عن ذلك، وأن كل القوى الموجودة في الساحة غير قادرة على رسم طريق الخلاص. فكم يكون عدد هؤلاء بيننا؟