تشاء الصدفة البحتة أن أحل ضيفاً على الغداء عند سيدة أوكرانيا الأولى في عاصمة بلدها «كييف»، بينما كان زوجها، الرئيس فيكتور يوشينكو، في ضيافة الرئيس حسني مبارك في القاهرة. بداية، لماذا ذهبت أنا إلى أوكرانيا؟ كانت المناسبة هي انعقاد المؤتمر الخامس للحركة الديمقراطية العالمية، وهي حركة بدأت بعد سقوط حائط برلين (1989)، وتحول كثير من بلدان شرق ووسط أوروبا إلى أنظمة حكم ديمقراطية، بعد عقود طويلة من أنظمة حكم شمولية ماركسية. وتتكون الحركة من حوالي ألف منظمة من منظمات المجتمع المدني، النشطة في الدعوة إلى الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية، من كل بلدان العالم، في القارات الست، من استراليا إلى أمريكا اللاتينية. وتجتمع الجمعية العامة كل سنتين في أحد البلدان التي بدأت تحولاً ديمقراطياً فعلياً. فيكون اجتماع الحركة في هذا البلد، نوعا من الاعتراف والتنويه والدعم لهذا التحول ومباركته، والتضامن مع القائمين به. لذلك كان الاجتماع الأول في الهند، عام 2000. فإلى ذلك الوقت كانت الهند تكاد تكون البلد الوحيد في العالم الثالث، التي بدأت نظام حكم ديمقراطي مدني، وحافظت عليه منذ استقلالها عام 1947. وجاءت الاجتماعات التالية تباعاً في ساوباولو (البرازيل)، دربان (جنوب إفريقيا)، واستانبول (تركيا). وها هو الاجتماع الخامس يُعقد في عاصمة أوكرانيا، التي ارتبط اسمها بما سُمي «بالثورة البرتقالية» عام 2004. فرغم أن الحكم الشمولي الماركسي سقط عام 1990، إلا أن الذين قفزوا إلى مقاعد السلطة، هم أنفسهم أقطاب الحزب الشيوعي، بعد أن غيروا اسم الحزب، إلى الحزب الاشتراكي. واستمرت نفس الممارسات البوليسية القمعية مع زيادة الفساد والنهب المنظم للمال العام وأملاك الدولة. فبدأت نواة حركة اجتماعية مضادة تدعو إلى الديمقراطية، من خلال انتخابات حرة ونزيهة. ومع نمو واتساع هذه الحركة، أذعن أقطاب الحزب الاشتراكي (الشيوعي سابقاً)، وأعلنوا قبولهم لإجراء الانتخابات، وفي ذهنهم ومخططهم تزويرها، كما تعودوا في السابق. ولكن قوى المعارضة، دعت مراقبين دوليين من المنظمات الحقوقية والبرلمان الأوروبي والأمم المتحدة، لذلك حينما أعلنت النتائج المزورة، التي أعطت نفس الحرس القديم الأغلبية، وهو ما خالف شهادة المراقبين الدوليين، الذين أقروا أن المعارضة هي الأحق بالفوز، حيث إن نسبة التصويت لصالحها تجاوزت 52 في المائة. وخرجت جماهير غفيرة تحتج على تزوير الانتخابات. واستخدمت قوات الأمن الوسائل المعتادة في فض هذه المظاهرات، فما كان من المتظاهرين، إلا أن عادوا في المساء، وآلاف منهم تحمل الشموع، وتجمعوا في الميدان الرئيسي، الذي يضم نصب الجندي المجهول، وقاعة مؤتمرات كبرى تعرف باسم «ميدان الاستقلال»، وهو أشبه بميدان التحرير في القاهرة. وبدؤوا يرددون الأغاني الاحتجاجية، وقادهم في ذلك أشهر مطربي أوكرانيا. ولم تعرف الأجهزة الأمنية ماذا تفعل مع مواطنين تجمعوا سلميا للغناء وهم يحملون الشموع. فوقفوا يراقبون، على أمل أن ينفضوا، بعد ساعة أو ساعتين، ولكن مرت عدة ساعات، والناس لا ينفضون، ولا يتناقصون، وانقضت ليلة كاملة، واستمرت جموع وجماهير متجددة في التوافد على ميدان الاستقلال. ومرت ليلة ثانية، ويوم ثالث، والجماهير تتجدد، طوال النهار، وتشعل الشموع في المساء، وتعزف الموسيقى، وتردد الأغاني. ثم هطلت الثلوج وانخفضت درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر، واعتقدت الأجهزة الأمنية أن ذلك سيكون كفيلاً بفض الجموع من ميدان الاستقلال. ولكن لدهشة الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام العالمية، فإن ذلك لم يحدث. وظل الناس معتصمين في ميدان الاستقلال، في قلب العاصمة كييف، وجلب بعضهم خياماً، نصبوها على أطراف الميدان. وتصادف أن لون هذه الخيام كان «برتقالياً»، فأطلقت عليها بعض وسائل الإعلام اسم «الانتفاضة البرتقالية». ومع استمرار الانتفاضة واتساعها لأسبوع كامل، تحولت التسمية إلى «الثورة البرتقالية». ومع الأسبوع الثاني، انتشرت المظاهرات في بقية المدن الأوكرانية، والتي اتخذت من الأعلام البرتقالية شعارا لها، فثبّتت الاسم، وأصبح اسم أوكرانيا والثورة البرتقالية مترادفان. واستمرت المظاهرات لثمانية عشر يوماً متتالية، إلى أن أذعن الحرس القديم، وقبل إعادة عدّ الأصوات، وكان ذلك حلاً وسطاً لحفظ ماء وجه الحرس القديم، الذي كان يدرك في قرارة نفسه أن المعارضة هي التي فازت في الانتخابات. ومع الإعادة حسمت العملية لصالح الزعيم المعارض فيكتور يوشينكو، الذي أصبح الرئيس المنتخب. ولكن قبل تقلد الرجل مهام منصبه، أصابه مرض مفاجئ، أدى إلى تشويه وجهه. وأتضح فيما بعد أن أحد الأجهزة السرية للحرس القديم هو من دس له في طعامه المادة التي أدت إلى تشويه وجهه. وأصبحت الواقعة وصورة فيكتور يوشينكو قبل وبعد التشوه ملء وسائل الإعلام في الدنيا كلها. وتطوع عشرات الأطباء وخبراء جراحات التجميل لعلاج الرجل، وهو الأمر الذي استغرق عاماً كاملاً، وعدة جراحات مؤلمة. والذين سيشاهدون فيكتور يوشينكو في ضيافة الرئيس مبارك في القاهرة، سيرون إنساناً وسيماً رشيقاً، أقرب إلى نجوم هوليود. سمعت كل هذه التفاصيل مجدداً من زوجة الرئيس الأوكراني، كاتارينا يوشينكو، وهي بدورها سيدة حسناء، في أواخر الأربعينات من عمرها، وتجمع بين طلعة بهية ولسان فصيح بعدة لغات، وهي التي افتتحت المؤتمر الخامس للحركة العالمية للديمقراطية، مساء الأحد 6 أبريل، وقد دعتني ورئيس الحركة كارل جيرشمان، ومايكل داني، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الاسترالي، ود. مايكل ماكفول، الأستاذ بجامعة سانفورد، إلى الغداء، يوم الثلاثاء 8 أبريل. وفاجأتني السيدة الأولى بسؤال استعلامي: «هل تعلم يا دكتور سعد الدين، أننا نتناول الغداء هنا في كييف، بينما زوجي فيكتور في القاهرة، وربما هو أيضاً يتناول الغداء مع رئيسكم حسني مبارك!». والواقع أنني لم أكن أعلم ذلك، ولكن لأن جميع من حضروا الغداء يعرفون الخلاف القائم بيني وبين نظام آل مبارك، فإنهم انفجروا ضاحكين، وأضافت هي: «إنني تعمدت دعوتك إلى الغداء، وأشكرك على تلبية الدعوة، لأننا هنا في أوكرانيا، نتعاطف مع المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، حتى لو كانت مصلحة الدولة تتطلب أن يقوم رئيسنا بزيارة رؤساء بلدان غير ديمقراطية مثل مصر وليبيا...»، وكأن السيدة كاتارينا تريد أن تقول، كما يقول الأزهريون في مصر: «ولكن هذه نقرة، وتلك نقرة أخرى...». وفتح ذلك نقاشاً مثيراً، بهرتنا فيه سيدة أوكرانيا الأولى باتساع ثقافتها، ومتابعتها الدقيقة للأحداث العالمية، وطبعاً تأثرت بشكل خاص لمعرفتها بقضيتي مع آل مبارك، وقضية مركز ابن خلدون عموماً. قضيت اليومين التاليين في التنقيب والبحث حول هذه السيدة، وحول الثورة البرتقالية. وعلمت أنها كانت العقل المدبّر لفكرة العصيان المدني السلمي في ميدان الاستقلال، وإشعال الشموع، وتعبئة أشهر نجوم السينما والموسيقى والغناء والرياضة للمشاركة في ذلك الحدث الكبير... فقلت لأحد الزملاء الأوكرانيين، إذا كان ذلك صحيحاً، فهي التي تستحق أن تكون رئيسة أوكرانيا، فقال محدثي: لا تستعجل الأمور... فسيأتي دورها قريباً... ولدينا بالفعل امرأة أخرى، وهي رئيسة وزراء، اسمها يولينا تميشنكو، سألته بدوري، وهل تحب السيدتان بعضهما البعض؟ قال بسرعة وضحكة عالية: «نعم إلى درجة الموت...!». والله أعلم