نملك الكثير من الأشياء اليوم لم نكن نملكها في الماضي، فقد طرأت تغيرات جذرية على الحياة أصبحت معها هذه الأخيرة يسيرة في مناحي كثيرة، لكننا ورغم كل ما نملك، لا نملك حين نريد أن نصرخ رُكنا واحدا نمارس فيه الصراخ العلني حتى تصل أصواتنا إلى آخر الكون، فحين تنتابنا الرغبة في ذلك لا يوجد في محيطنا مكان واحد نستطيع أن نفتح فيه فمنا على مصراعيه لتخرج كل شحنات الصراخ المتراكمة في دواخلنا. فالصراخ في البيت أمر ضد كل ما تربينا عليه، والصراخ في الشارع أمر لن تُحمد عقباه. لا يوجد ركن صغير بوسعنا أن نُمارس فيه العواء، نظل مخنوقين به ولا نستطيع إطلاقه، فالحياة مزدحمة، والصراخ يواجه بردود فعل رافضة مستنكرة. ففي عالم لا يسمح بالجنون، يسمح فقط للغة العقل ألا يمكن أن نُطلق حناجرنا لنُسمع للآخرين آهات اللوعة، تصادر حريتنا في الصراخ لأننا نعيش في زمن لا نستطيع فيه الحديث بكل حرية، زمن الصمت والسكوت فكيف بالصراخ؟؟ لكن أو ليس الصراخ نفسه حالة إنسانية، أو ليس من حق البشر أن يصرخوا متى أحسوا بالرغبة في ذلك، لماذا يُطلب منا الصمت وكظم الغيظ؟ هل يستطيع أحدنا كظم الغيظ طوال عمره. أمر صعب، لأنه إذا كظِمَ سيتحوّل في يوم من الأيام إلى قوة دفع مولدة للمزيد من الانفجار ما يضعنا في خانة الخطيرين. لكن يبقى المكان الوحيد الذي يسمح بهذا الجنون هو عجلة الصراخ، لأنك تستطيع الصراخ بأعلى صوتك وأنت تمتطيها بكل حرية، دون أن يكون فوق رأسك أحد يمنعك أو قوة تكبح مشاعرك وأحاسيسك، تمارس صلاحيات أحبالك الصوتية المخنوقة وهي تلف بك ذات اليمين وذات الشمال. وشخصيا أحب ركوب هذه العجلة، ولا أتأخر في قطع تذكرة لأركبها كلما زرت حديقة للألعاب، حيث أنضم لعشرات الوجوه الظامئ بعضها للمغامرة. ونشوى الشعور بالخطر، والظامئ غيرها للصراخ مثلي، فما أن تبدأ في الدوران وتسارع فيه حتى تختلط الحناجر ليشق صُراخ، الفزع، والنشوة والرغبة عنان السماء. إحساس رائع أن تحسّ بالحرية والانطلاق، تغير في الأصوات كما يحلو لك، مرة تصرخ بصوت عال حاد، ومرة تصرخ بصوت عال غليظ، ومرة تصرخ كالمجانين ترافق صرخاتك بحركات مستخدما يديك وتعابير وجهك... كلها أشياء تبعث على الانتشاء، فحين يضيع صراخنا وسط الصراخ لا أحد يستطيع أن يشير إلينا بالجنون، لكن عندما تهدأ العجلة من دورانها وينزل الجميع ونعود لانضباطنا ولحياتنا الخالية من أي ركن لممارسة الصراخ، نصمت، وإذا انتابتنا الرغبة في ذلك من جديد نكتمها إلى حين زيارة أخرى لحديقة الألعاب. فزوروا حدائق الألعاب واصرخوا بأعلى صوتكم فوق عجلاتها، و«رَدُّوا عْلِيَّ الخْبارْ!!!».