عين بريطانيا مفتوحة هذه الأيام أكثر على مصير زيمبابوي وأخبار الرئيس روبرت موغابي تأخذ حيزا إعلاميا كما لو كانت «قضية وطنية». وفي انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في هذه المستعمرة البريطانية سابقا، يستمر الحنق البريطاني والغربي، مع قلق لا يخفى من أن تنفلت الأمور إلى سيناريوهات غير محسوبة. شحذ السكاكين إذا كان المرء من المتابعين هذه الأيام لوسائل الإعلام الغربية عموما والبريطانية خصوصا، مع التمتع بغير قليل من الجهل في مادتي التاريخ والجغرافيا، فسيظن بسهولة أن الانتخابات في زيمبابوي وما قد تؤول إليه الأوضاع في هذا البلد الإفريقي إنما تتعلق بإحدى المناطق المشكلة للمملكة المتحدة أو سيستخدم تقنية الفلاش باك ليجد نفسه في زمن كانت شمس الدنيا لا تغرب عن إمبراطورية الملكة فيكتوريا. موغابي، البطل القومي الإفريقي سابقا والموصوف بالديكتاتورية والدموية حاليا، سلطت عليها كميات من الأضواء قد تكون كافية لتغيير بشرته السوداء، لكنها أضواء إعلامية وخطابات وتصريحات سياسية غربية لا تختلف عن السكاكين التي يشحذها الجزارون قبيل عيد الأضحى. فإذا كانت مشكلة موغابي أنه مثال حي وشائخ للثورة التي تأكل نفسها وأبناءها في العالم الثالث وأنه تحول من محرر للأرض إلى مستبد استلذ البقاء على الكرسي بأي ثمن، فإن مشكلة بريطانيا أنها لم تستطع بعد التخلص من تصور الأقلية البيضاء، التي كانت تستحوذ على خيرات البلاد الزراعية، امتدادا لشعبها. ولم تعرف العلاقات بين لندن وهراري غير التوتر عنوانا لها منذ أمد بعيد. لكن موغابي الذي تألق أيام المقاومة إلى أن نالت بلاده الاستقلال، لم يتوان في احتكار السلطة لسنوات طويلة علي حساب الحريات العامة ونجح أيضا، في صناعة أعداء غير قليلين، فقد جر التفافه على السلطة إلى عداوات في الداخل أو مع دول الجوار، والقوى الدولية بزعامة بريطانيا التي دفعت الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات قاسية على هذا البلد الإفريقي وفي ركبه سارت الولاياتالمتحدة التي لم تخف دعمها معارضة حكومة موغابي. وقد قامت لندن بإقرار عقوبات ضد زيمبابوي في إطار مجموعة الكومنولث وبتزكية أمريكية وأسترالية، لكن الدول الإفريقية العضو في الكومنولث رفضت القرار البريطاني إلا أن لندن سيتأتى لها ذاك في عام 2003، حيث علقت عضوية زيمبابوي في الكومنولث، وهو ما تلاه في العام نفسه قرار للكونغرس الأمريكي بفرض عقوبات ضد حكومة موغابي واتهمها بالعنصرية. بينما بلغت أزمة موغابي مع الغرب ذروتها العام الماضي، حيث كان الرئيس الإفريقي الوحيد الذي لم يدع من قبل باريس لحضور قمة «فرنسا إفريقيا» في مدينة كان. وتحتل أخبار زيمبابوي حيزا مهما في صحف بريطانيا بمختلف تلاوينها، حتى ليظن القارئ العابر أن المسألة شأن وطني. فعنوان مثل «موغابي: نهاية اللعبة» يخفي غير قليل من التشفي في فشل حزب موغابي في الاحتفاظ بالأغلبية المطلقة في البرلمان، وتغطيات لقناة «البي بي سي» حين تقف على الحدود مع جنوب إفريقيا بشكل منتظم لتصوير الباحثين عن هجرة إلى بلاد الأبرتايد سابقا لا يمكن أن تبلغ رسالة أخرى غير أن بريطانيا لا ترغب في بقاء موغابي ساعة واحدة في الحكم. لكن أحدا من المحللين السياسيين لم يطرح السؤال الأتي: هل كانت لندن ستبكي على وأد الديمقراطية في زيمبابوي لو أن موغابي حافظ لأحفاد رودس على امتيازاتهم؟ وما السر في أن عددا من المستبدين في إفريقيا لا تنظر إليهم عين الحكومات الغربية إلا بمنظار الرضا؟ أهي لغة المصالح التي قد ترى في الفساد قمة الإصلاح وفي الثورة الحقيقية عين الديكتاتورية. الإصلاح الزراعي لم يكن الغرب ليلقي بالا لأية ديمقراطية في زيمبابوي ولا التفت أصلا لسن موغابي الذي بلغ من العمر عتيا، لولا أن ابن الباشتو، وهي أكبر المجموعات العرقية في زيمبابوي والمسمى أيضا باب الاستقلال، عنت له فكرة القيام بإصلاح زراعي يحد من امتلاك السكان ذوي الأصول الأوروبية للأراضي بتوزيعها على السكان الأصليين، أي تغيير وضعية كانت تمكن أربعة آلاف مزارع أبيض فقط من امتلاك سبعين في المائة من مجموع أراضي «سلة خبز إفريقيا». وهو القرار الذي أفاض الكأس بين لندن وواشنطن من جهة وهراري من جانب آخر. وبشكل مبسط فإن قرار موغابي منع قرابة واحد في المائة فقط من سكان زيمبابوي البيض، حوالي مائة ألف نسمة، من الاستفراد بزهاء سبعين في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي وضعية كانت تجعل عشرة ملايين مواطن أسود في زيمبابوي مجرد عمال كادحين في مزارع أحفاد سيسيل رودس. لكن بريطانيا لا تقول أبدا إن البيض كانوا مستعبدين لأبناء البلد الأصليين بل تتهم موغابي بالدكتاتورية وبفرض الحزب الذي يقوده والمعروف اختصارا ب«زانو» على المشهد السياسي في البلاد، وباغتصاب أراضي البيض، الذين تأذوا من رياح تغيير لم يرقهم لأنه هدف، في نظر واضعيه، إلى استكمال تحرير الاقتصاد والإنسان بعد الأرض، فهجر الكثير منهم زيمبابوي وعادوا أدراجهم إلى القارة العجوز. وقبل قرار الإصلاح الزراعي الذي أكسب صاحبه شعبية غير مسبوقة أقدم موغابي على إجراءات أقل استفزازا للمستعمرين السابقين، حينما عمل على تغيير أسماء المدن الزيمبابوية بداية الثمانينات فأصبحت سالسبوري مثلا تحمل اسم هراري. وقبل أربع سنوات أغلقت السلطات في زيمبابوي أكثر من أربعين مدرسة بسبب خلافات حول رسوم الالتحاق بها، وأعلن وزير التعليم آنذاك أن المدارس أغلقت بسبب زيادتها لرسوم الالتحاق بها دون الحصول على موافقة الحكومة، معتبرا أن تلك المؤسسات التعليمية عنصرية تحرم الأفارقة، أي السود، من الاستفادة منها. وقد بدا لافتا حينذاك أن أحد أبناء روبرت موغابي، وأبناء العديد من الوزراء وزعماء الحزب الحاكم، كانوا ضمن الطلاب المنتمين للمدارس التي أغلقت. وسيذكر التاريخ أيضا أن الرجل تمكن قبل واحد وعشرين سنة من إبرام مصالحة عرقية بين المجموعتين المتصارعتين في البلاد، وعين زعيم مجموعة إنديبيلي جوشوا نكومو رئيسا للوزراء، كما قام بإقرار دستور للبلاد عام 2000 نص على مسألة الإصلاح الزراعي. ولا يعرف الكثيرون أن موغابي أصبح مدرسا وهو ابن سبعة عشر ربيعا وأنه التحق بجامعة فورت هير في جنوب إفريقيا لدراسة الإنجليزية والتاريخ وتخرج منها عام 1951. وكان من بين زملائه في الفترة الجامعية زعماء كبار مثل إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي ورئيس زامبيا السابق كينيث كاوندا. وقد حصل موغابي على الإجازة في التدريس، ثم انتقل إلى بريطانيا حيث حصل على الإجازة في الاقتصاد، كما يوجد بحوزته ما لا يقل عن ثماني شهادات جامعية في الاقتصاد والتربية والقانون، فضلا عن شهادات فخرية عليا من مختلف جامعات العالم. منذ وصوله إلى سدة الرئاسة في بلاده قبل ثمان وعشرين عاما صار يطلق عليه لقب أستاذ فن البقاء السياسي بالنظر إلى طول مكوثه في أعلى هرم السلطة. إلا أن تقدمه في السن وفشل حزبه في الحفاظ على الأغلبية البرلمانية، وأمام تمسك أنصاره به رغم الهزيمة، معولين على ولاء الجيش والشرطة، عوامل قد تفتح البلاد على سيناريو شبيه بما وقع في كينيا أو يمهد لانسحاب سلمي لموغابي من الحكم طواعية أو يفتح الباب لتقاسم السلطة عبر وسطات وصفقات لا يستبعد أن تلعب فيها الجارة جنوب إفريقيا دورا مهما، حسب محللين سياسيين إنجليز. ندية إزاء الغرب يروى أنه خلال لقاء للسفير الأمريكي في زيمبابوي «كريستوفر ديل» بموغابي حمل الدبلوماسي الأمريكي «أب الاستقلال» مسؤولية الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها زيمبابوي، فكان رد موغابي قصيرا مؤلما: «اذهب إلى الجحيم». وقد جلبت سياسات موغابي المنحازة للسكان الأصليين لصاحبها عددا من الأعداء قد يفوق عدد السنين التي قضاها رئيسا وحيدا لبلاده، وكان على رأس قائمة ألد أعداء الولاياتالمتحدة وبريطانيا. لا دعاوى البيت الأبيض بأن السياسات الاقتصادية الفاشلة لنظام موغابي دمرت البلاد، لتبرير فرضها عقوبات سياسية واقتصادية ضد من اعتبرتهم المقاييس الأمريكية «يعيقون الإصلاح الديمقراطي»، ولا قرار الاتحاد الأوروبي تمديد عدد من العقوبات على هراري شملت حظر بيع الأسلحة لزيمبابوي، غيرت شيئا في أفكار موغابي ولا لطفت حتى تصريحاته، فقد نقل عنه أن «الاستعمار البريطاني لا تزال لديه أطماع إلى الآن في زيمبابوي، ولا يريده أن يخرج عن طوع الإمبراطورية القديمة التي كانت الشمس لا تغيب عنها»، مضيفا أن «الشمس غابت، ولابد لبلاده أن تعيش مستقلة.. دون تدخل من أحد سواء كان استعمارا قديما أو حديثا». ويعرف عن موغابي أيضا كونه معارضا شرسا للسياسة الأمريكية في إفريقيا، وهي خلفية أخرى تفسر تفاقم التوتر في العلاقات بين البلدين، والذي زادته بلة تصريحات سابقة لكوندوليزا رايس حين وصفت زيمبابوي بمعقل للاستبداد. لكن مجلة «تايم» الأمريكية رأت في موغابي «أستاذا في فن البقاء في السلطة» الذي استطاع لأكثر من ربع قرن مواجهة المعارضة الداخلية، والضغوط الخارجية ضده وخاصة الضغوط التي تمارسها بريطانيا. لكن إذا كان موغابي أفلح ربما في كل هذا فإن الاقتصاد كان صديقه الذي خانه أو ربما العدو الذي يوشك أن ينهي أيامه في هراري. فمنذ استقلالها عام 1980، وحتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ظلت زيمبابوي واحدة من أهم الاقتصادات في القارة السمراء، لكن منذ قرابة سبع سنوات بدأت الوضعية تترهل، حيث لوحظ انخفاض في المحاصيل بشكل حاد وارتفعت نسبة التضخم بنسبة تعتبر الأقوى عالميا، وهي الوضعية التي قادت زيمبابوي إلى أزمة سياسية واقتصادية خانقة. وتحمل تقارير دولية سياسية الإصلاح الزراعي مسؤولية ما وقع، لكن موغابي يصر على أن زيمبابوي سقطت ضحية تخريب متعمد للاقتصاد من قبل معارضيه في الداخل والخارج، الذين يحاولون الإطاحة به بسبب موقفه الوطني، وخاصة مصادرته مزارع ذوي البشرة البيضاء وإعادة توزيعها.