حُملت المجابهات العسكرية الطائفية في العراق على سلاح الأجنبي واستراتيجيته التفكيكية. تلك حقيقة لا تقبل أن يذهل عنها المرء وهو يطالع وقائع هذا المنحى الانحداري الذي تقطعه العلاقات الأهلية العراقية ويهدّد بتمزيق البقية الباقية من روابط الاتصال والوحدة بين أبناء الرافدَين. قد يستهوي كثيرين أن يبحثوا عن علل تلك المجابهات في البنى العميقة للمجتمع العراقي، أو في تجربة الدولة الحديثة في البلد وعلاقاتها بالجماعات الأهلية كافة، فينتهي البحث إلى نتائج متَضمَّنة سلفا في مقدماته والمنطلقات: الحرب ردّ على حيف أو غبن أهلي لفريق من المجتمع، ونتيجة «طبيعية» لانقلاب موازين القوة الداخلية! وتلك النتيجة/فرضية لا تستقيم بالعودة إلى معطيات المجتمع الوطني العراقي قبل الاحتلال وأنماط الصلة التي شدّت مكوّناته إلى بعضها فصنعت منها شعبا. كما لا تستقيم إلا بالقول إن نظام «حزب البعث» قام على قواعد طائفية. وهذه «أطروحة» لا يرددها إلا من يحْمل مشروعا طائفيا يبتغي تبرير نفسه باصطناع «سابقة» يبني عليها! وإذا كان «لابد من القول» إن المجابهات الطائفية الجارية في العراق تنهل بعض مصادرها من جوف البنية الاجتماعية وانقساماتها العامودية أو العصبوية التقليدية، فإن هذا التعليل لا يستقيم إلا بالقول إن تلك الانقسامات ما كانت لتطفو على سطح العلاقات الاجتماعية والسياسية وتتحول إلى صراعات أهلية إلا بتأثير قوة فجّرت تلك البنية بالعنف وأخرجت تناقضاتها إلى السطح. والقوة تلك ليست شيئا آخر غير الاحتلال. يخطئ كثيرا في الفهم والتقدير أولئك الذين أخذهم الظن بأن سلطات الاحتلال الأمريكي –وحاكمُها بول بريمر- أخطأت في قرارها حل الجيش العراقي وأجهزة الاستخبارات بعد غزو بغداد. لعلهم صدقوا أن جيوش الغزو إنما أتت فعلا ل«تحرير العراق» وإسقاط النظام وتسليم البلد ل«المعارضة» ثم العودة إلى قواعدها في أمريكا وبريطانيا وسواهما! لكن جيوش الغزاة لم تأت من أجل هذا، وإنما لتدمير الدولة والكيان وتفكيك النسيج الاجتماعي من أجل إعادة تركيب العراق وفق هندسة سياسية جديدة تناسِب الصورة التي ترسمها الولاياتالمتحدةالأمريكية لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة للمراحل القادمة. وما كان لامرئ في رأسه عقل أن يفوتَه أن أول آثار إسقاط الدولة (وليس النظام السياسي فقط) وتدمير مؤسساتها (هو) نشر الفوضى والتسيّب، وإطلاق المخاوف المتبادلة بين العراقيين، والعودة بهم من الولاء لوطن تفتّت ومزّقَتْه الجراحة الكولونيالية إلى عصبيّات صغرى تقليدية تبدو –شيئا فشيئا- وكأنها الملاذ والمأوى والحاضنة، ثم دفع كل فريق إلى إنتاج سلطته المحلية وقوته القتالية (المليشياوية) في وجه الفريق الآخر! وبكلمة: إنتاج البنية التحتية للحرب الأهلية وإعداد مسرحها السياسي ومناخاتها النفسية. ولم تكن مسؤولية الاحتلال في تفجير البنية الاجتماعية العراقية، وإطلاق انقساماتها وتناقضاتها العصبوية أو الأهلية فحسب، بل في تغذية الانقسامات تلك ودفعها في أفق التعبير عن نفسها في علاقات صدام واصطراع تذهب بالبقية الباقية من عوامل الوحدة والتضامن في النسيج الاجتماعي والوطني. فلقد أتى يكرّس لدى العراقيين شعورا بأن الغزو والاحتلال أسفرا عن غالب ومغلوب، ليدفع فريقا إلى تحصيل «حقوق» الغلبة، ويدفع آخر إلى الإفصاح عن الشعور بمظلوميته وما يعانيه من ضيم وحيف؛ أي ليثير التواجس بين الفريقين ويؤسس علاقتهما على شك متبادل يأخذ فيه الاحتلال قسطا من الراحة ناهيك بدور الحكم الذي يقضي في ما شجر بينهما! انتقل الاحتلال سريعا من استثارة المشاعر العرقية والغرائز الطائفية، ومن توزيع العراقيين على حدود العصبيات الأهلية التقليدية، إلى مأسسة ذلك كله: أي إلى دفع تلك التكوينات العصبوية إلى التعبير عنها مؤسّسِيا من خلال تفريخ «دولة» و«نظام سياسي» قائم على مبدإ المحاصصة (العرقية والطائفية) و«تمكين» كل عصبية من حصة. بدأ ذلك في صيغة «مجلس الحكم الانتقالي» دون أن ينتهي اليوم ب«حكومة» نوري المالكي؛ وبينهم سَرَتْ مفاعليه في «حكومة» علاوي المؤقتة و«حكومة» الجعفري الانتقالية، وتكرّست صيغُهُ التقنينيّة في «قانون إدارة الدولة الانتقالي»- الذي وضعه بريمر- وفي «الدستور» المأخوذ روحا عن «فلسفة» قانون بريمر! ولنا أن نتخيّل أيّ صراع ذلك الذي سيندلع ويستعر بين العراقيين حين تقع دسترة ومأسسَة «حقوق» أعراقهم وطوائفهم: دفاعا عن تلك «الحقوق» من جانب أو نقضا لها واعتراضا من جانب آخر! ما يقع من مواجهات مسلحة تنذر بحرب داخلية واسعة، لا قدّر الله، بين العراقيين ليس إلا الثمرة المُرّة لفعل الاحتلال، وآثاره التدميرية والتفكيكية. ومن أراد أن يبحث عن أسبابه والعلل، فإن مجال ذلك البحث ليس الاجتماع الأهلي العراقي ومكوناته، وإنما الاجتماع السياسي الراهن ومعطياته ومعادلاته.