خلال المؤتمر الدولي للاتحاد العالمي للقضاة الذي نظمته الودادية الحسنية للقضاة في الدارالبيضاء الأسبوع الماضي، أشارت بعض المداخلات إلى ضعف الميزانية المخصصة للعدالة. بحيث تفتقر أغلب محاكم المملكة إلى ضمانات أمنية لحماية السلامة الجسدية للسادة القضاة. أستطيع أن أقول بحكم تجربتي المتواضعة مع بعض محاكم المملكة أن بعضها لا يفتقر فقط إلى ضمانات أمنية لحماية السلامة الجسدية للمتقاضين، وإنما يفتقر أيضا إلى أبسط شروط النظافة. ولا أتحدث هنا عن نظافة الذمة، فهذه لا تستطيع أكبر الميزانيات توفيرها لأنها تتعلق بضمير القاضي أكثر مما تتعلق بتعويضات الوزارة، وإنما أتحدث عن نظافة المكان. وفي محكمة بني ملال مثلا التي وقفت فيها لأول مرة بسبب قضية الدرك الملكي، اكتشفت وأنا خارج القاعة، بعد أن «جاد» علينا سعادة القاضي بعشر دقائق استراحة، وجود حفاظة من حفاظات الأطفال محشوة في ثقب بالجدار الملاصق لقاعة الجلسات. وأعترف أنني عندما رأيت المنظر قلت في نفسي «ميمتي فين جيت». أما لكي تجلس داخل قاعة المحكمة فيجب أن تنتبه جيدا لكي لا يمسك بثيابك مسمار صدئ يطل برأسه من الألواح الخشبية التي ذكرتني بمقاعد «الجامع» الذي درسنا فيه عند السي العبدي أيام الصبا. بحياتي لم أر قاعة محكمة مبهدلة مثل تلك التي رأيتها في محكمة بني ملال. المنصة التي تجلس فيها هيئة المحكمة شبيهة بصندوق خشبي مشقق الحواشي. وعندما جلس القاضي بدأت تظهر رجلاه اللتان كان يلعب بهما من وراء الحاجز الخشبي المشبك. والكارثة أنه رفع حذاءه في وجه هيئة الدفاع وظهر قاعه المكشوط. وبقي سعادة القاضي، دون علمه ربما، موجها قاع حذائه في وجوهنا طيلة الساعات الأربعة الذي دامتها المحاكمة. وعندما يطالب القضاة في مؤتمرهم العالمي بالرفع من الميزانية المعتمدة للعدالة فهم على حق. فقد تعرض بعضهم لاعتداءات بالسلاح الأبيض في مداخل المحاكم، كما حدث في بني ملال عندما طعن أحدهم قاضيا بسكين يومين قبل محاكمتنا بالمحكمة نفسها. وإذا كانت بعض المحاكم تفتقر إلى الضمانات الأمنية فإن بعضها تفتقر حتى إلى الضمانات الصحية، خصوصا عندما يريد أحد أن يقضي حاجته الطبيعية. فيطلب «اللجوء القضائي» ليقضي حاجته في مراحيض المقاهي المجاورة. وهناك محاكم توجد في كراجات، وأخرى بمجرد ما تضع رجلك فيها حتى تشعر بأن حقك ضائع لا محالة. محاكم سيماها على واجهاتها، تشتغل انسجاما مع الحكمة المغربية القائلة «الحاجة اللي ما تشبه مولاها حرام». وإذا كنت تريد أن تعرف سمعة جهاز ما فما عليك سوى أن تزور مقراته. وفي المغرب زيارة سريعة لمقرات الأمن والقضاء تعطيك صورة وافية للعفن والفساد المستشري داخل هذين الجهازين. اشتكى السادة القضاة من عدم وجود ضمانات وقائية أمنية تحميهم وتحمي أفراد أسرتهم، كما هو الشأن بالنسبة للقضاة الأمريكيين. ولعل أكثر من قاض مغربي قضم أصابع يديه من شدة الغيرة وهو يسمع القاضي «جوانا سايبير» عضو جمعية القضاة الفيدراليين الأمريكيين، وهو يعرض البرنامج الحكومي الأمريكي الخاص بحماية القضاة وعائلاتهم بواسطة برنامج « مارشال سيرفيس» الأمريكي. فبالإضافة إلى تكفلها بالحماية الشخصية للقضاة الأمريكيين أربعا وعشرين ساعة على أربعا وعشرين في حالة تلقي أحدهم لتهديد ما، تضمن شركة «مارشال سيرفيس» الأمن في قاعات المحاكمات. كما أن الشركة تضمن ربط بيوت القضاة بجهاز إنذار يكشف محاولات التسلل داخلها. لكن جانبا من القضاة المغاربة بقدر ما سيندمون لأنهم لم يخلقوا قضاة أمريكيين لكي يستفيدوا من خدمات هذه الشركة الأمنية التي تضمن سلامتهم وسلامة عائلاتهم، بقدر ما سيحمدون الله لأنه يمارسون القضاء في المغرب. خصوصا عندما سيسمعون القاضي الأمريكي «جوانا سايير» يتحدث عن كون كل هذه الضمانات الأمنية لا تجعل من القاضي في أمريكا شخصا فوق القانون. ففي مقابل الحماية التي توفرها الحكومة الأمريكية لقضاتها هناك قانون إجباري يخضع له جميع القضاة اسمه التصريح بالممتلكات. ويضيف القاضي «جوانا» بأن كل القضاة ملزمون سنويا بتقديم تقارير دقيقة حول ممتلكاتهم وعائداتهم المادية. وهذه التقارير توضع رهن إشارة عدة مواقع إلكترونية، ومسموح بتداولها والكشف عنها حتى بالنسبة للمتهمين الذين يحاكمهم هؤلاء القضاة. هنا في المغرب لازال قانون تصريح القضاة بالممتلكات ضربا من الخيال. مع أنه إذا كان هناك من مهنة يجب أن يخضع ممتهنوها للرقابة المالية فهي مهنة القضاء. لأن القضاة يحكمون في ملفات مالية كبيرة وتروج أمامهم في ردهات وقاعات المحاكم قضايا بالملايير. بحيث يكون القاضي معرضا للإغراء أكثر من غيره، خصوصا في المغرب حيث يمتلك القاضي السلطة المطلقة في النطق بالأحكام التي يريد، وحيث الرشوة هي الأوكسجين الطبيعي الذي تتنفسه ردهات المحاكم والإدارات العمومية. ولذلك فقانون التصريح بممتلكات القضاة أصبح اليوم ضرورة عاجلة لتطهير هذه المهنة الشريفة من المرتشين والقضاة الفاسدين الذين يراكمون الثروات ويسجلون الممتلكات في أسماء زوجاتهم وأبنائهم في الداخل والخارج حتى لايثيروا الانتباه إليهم. إن مهنة القضاء محتاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى لاستعادة بريقها، وهذا لن يصبح ممكنا إلا بمحاربة تلك السمعة السيئة التي التصقت بالمعهد العالي للقضاء، والذي يعرف الجميع المبلغ المطلوب إعطاؤه كرشوة لدخول بعض المرشحين إليه. فبالله عليكم ماذا يمكن أن ننتظر من طالب مجاز في القضاء وجد نفسه مجبرا على إعطاء عشرين مليونا كرشوة لولوج معهد يؤهله بعد سنتين للبس بذلة القاضي والفصل بين الناس بالعدل. إن أول هم سيكون لمثل هؤلاء القضاة الذين تسلفوا وتكلفوا من أجل جمع المبلغ الباهظ المطلوب هو استرجاع هذا المبلغ أولا. وفي كلنا نعرف كيف تبدأ بلية الرشوة، بحيث «ماصعيبة غير البدية». وإذا كان من حق السادة القضاة أن يطالبوا الحكومة بتوفير الأمن القضائي لهم ولعائلاتهم حتى يستطيع القضاء أن يكون مستقلا في المغرب، فإن من حق المواطن المغربي أيضا أن يطالب الحكومة بوضع قوانين صارمة تراقب ممتلكات القضاة وعائداتهم المالية، حرصا على الأمن القضائي للمواطنين. ومن خلال تتبع التغطية التي أفردتها الصحف للمؤتمر العالمي للقضاة في الدارالبيضاء، لاحظت شخصيا تركيز القضاة العرب والأفارقة على انتقاد القوانين الزجرية التي تعاقبهم في حالة الخطأ وشكواهم من انعدام الضمانات الأمنية لممارسة عملهم بكل استقلالية، فيما ركز القضاة الأوربيون والأمريكيون على توضيح حقوق القاضي وواجباته أيضا. ومنها كشفه بكل وضوح أمام سلطة الإعلام الرابعة بشكل سنوي لعائداته وممتلكاته. ونحن مع توفير محاكم لائقة بالسادة القضاة تحترم مكانتهم في المجتمع، وتعيد إليهم هيبتهم الضائعة، ونحن مع توفير الأمن لهم ولأفراد عائلاتهم حتى ينطقوا أحكامهم بلا خوف أو رهبة من أي جبار متسلط، ونحن مع الرفع من رواتبهم حتى يتعفف بعض ضعاف النفوس منهم عن مد أيديهم للمتقاضين. لكننا أيضا مع إخراج قانون تصريح القضاة بممتلكاتهم إلى الوجود. وإجبارهم على تقديم تقارير سنوية بعائداتهم المالية وإشهارها أمام الرأي العام. فكما يطالب السادة القضاة بالحماية القضائية لصالحهم نحن أيضا من حقنا أن نطلب الحماية القضائية من بعض الطائشين منهم. هكذا ستتحقق المساواة والاستقلالية والعدالة للجميع.