الإسبان أغرب الشعوب في صناعة الفرح، إنهم يصارعون الثيران في الحلبات حتى الموت ويأكلون لحمها بعد ذلك، بل يطلقون الثيران الهائجة في الشوارع ويركضون أمامها دون أن تثنيهم عن ذلك الأحداث المأساوية التي تقع بين الفينة والأخرى جراء ممارسة هذه التقاليد، وحتى عندما تشتد حرارة فصل الصيف يشرعون في التراشق بعشرات الأطنان من الطماطم، ويظلون طيلة الأسابيع الأخيرة من شهر مارس يرمون القنابل والشهب الاصطناعية على بعضهم، ويعرضون دمى فنية ضخمة في مدينة فلنسية، ثم يحرقونها وسط دهشة عدد كبير من السياح ليلة 20 مارس من كل سنة. إسبانيا مركز سياحي عالمي بسبب خصلة البهجة الموجودة في دماء الإسبان باعتبارهم شعبا مرحا يرقص ويغني ويملأ الشوارع بالصخب ابتداء من ليلة الجمعة من كل أسبوع، فالإسبان لا يدخلون إلى منازلهم إلا متأخرين، لأنهم يرقصون ويغنون في الشوارع حتى في أكثر المدن محافظة مثل برشلونة، ميزانيات ضخمة يتم صرفها من أجل هذه الاحتفالات الغرائبية، بيد أن ملايين الأورو تدخل أيضا إلى خزينة المدن التي تقام فيها مثل هذه الاحتفالات. كرنفالات بعد الحملة الانتخابية التي شدت الأعصاب طيلة الأسابيع الماضية، توارى الحدث السياسي عن الأنظار، فلا أحد يعرف بالضبط أين هو ثباتيرو أو راخوي، لكن الأنظار شدت طيلة الأسبوع إلى عودة الإسبان إلى خلق بهجتهم المعتادة انطلاقا من مدينة فلنسية، شمال شرقي البلاد، التي عاشت، هذه المرة، على إيقاع أعياد «الفايياس» أو الشهب الاصطناعية، فطيلة أسبوع لم تغادر البهجة شوارع المدينة التي باتت لا تنام تحت صوت المفرقعات وأضواء الشهب التي تحول ليل المدينة إلى نهار ساطع، وتحولت شوارعها إلى كرنفالات متواصلة طيلة اليوم بارتداء طفلات صغيرات وشابات لباس «الفايراس»، وهي عبارة بالإسبانية مشتقة عن اسم الكرنفال تحيل على الفتاة المشاركة فيه. وتتنافس الفتيات من أجل الظفر بلقب «فايرا» سنة 2008، وتخلق الاحتفالات منافسة حادة بين الأحياء التي تقطع أهم أزقتها في وجه السيارات والدراجات النارية، فلا يمكن الولوج إليها إلا سيرا على الأقدام، فكل حي ينصب خيمة كبيرة تجهز بالموائد وبما لذ وطاب من «البقية» الفلنسية التي سارت بذكرها الركبان، كما أن فناني كل حي يصنعون تحفتهم الفنية التي تقام في مكان عمومي ظاهر لآلاف السياح الذين يتقاطرون على المدينة من كل فج عميق، مثلما أن المطاعم باتت لا تغلق أبوابها طيلة أيام الأسبوع والفنادق صارت ممتلئة عن آخرها بالسياح الوافدين من مختلف الدول الأوروبية لحضور أحد أكبر الكرنفالات الأوروبية. ويتخذ كرنفال فلنسية أيضا طابعا دينيا بوضع نصب تذكاري ضخم للعذراء مريم في ساحة العذراء الشهيرة بالمدينة، وتأتي جميع الفتيات المرتديات لثوبهن التقليدي لإلباس الهيكل الخشبي بالورود، كل فتاة تحمل وردة بلون اتفق عليه مسبقا. وأغرب ما يقع في أيام الكرنفال هو حرق جميع التحف الفنية الموجودة في الأحياء، والتي قضى الفنانون المحليون شهورا من التعب في صناعتها في منتصف ليلة 20 مارس وسط بهجة البعض ودموع الحسرة التي يذرفها البعض الآخر، بل حتى المهاجرون وبينهم المغاربة وجدوا في هذه الاحتفالات فرصة للبحث عن رزقهم في إسبانيا، فبما أن كل شيء مباح خلال هذه الأيام، فقد وضعوا موائد لبيع ساندويتش النقانق والبصل، تماما مثلما يحدث في المدن العتيقة بالرباط والدار البيضاء ومراكش، وقلدهم المهاجرون القادمون من أمريكا اللاتينية، الذين نصبوا موائد مشابهة لبيع بعض الأغذية التقليدية أمام أنظار رجال الأمن الذين يغضون الطرف عن هؤلاء الباعة غير القانونيين، ويعتبرون وجودهم جزءا من مشهد البهجة والتوق إلى الغرابة التي تجلب السياح. ورغم أن موضوع الاقتصاد شكل ورقة صراع سياسي خلال الحملة الانتخابية بسبب ارتفاع الأسعار، إلا أن الإسبان شعب يحب السفر وإنفاق أمواله على المتعة، ضاربا عرض الحائط بكل المؤشرات الاقتصادية، فخلال خلال عطلة الأسبوع المقدس (سيمانا سانتا) ينفق الإسبان 2000 مليون أورو بمعدل 600 أورو لكل عائلة (حوالي سبعة آلاف درهم)، فالإسباني الذي يقرر السفر داخل التراب الوطني ويفضل الإقامة في فنادق الدرجة الثانية أو في منزل أحد الأصدقاء، يصرف لوحده 200 أورو، في الوقت الذي يصرف فيه الشخص الذي يسافر خلال هذا الأسبوع إلى الخارج حوالي 1100 أورو. وحسب آخر الإحصائيات التي سربتها وزارة السياحة الإسبانية، فإنه تم بيع أزيد من 57 ألف تذكرة سفر بالطائرة و2 مليون من تذاكر السفر بالقطار، وسجل في محطات الطرق السيارة مرور 15 مليون سيارة مسافرة عبر مختلف مناطق البلاد، كل ذلك حدث خلال الأسبوع الجاري فقط. دبلوماسية «سموكينغ» جريمتا قتل راحت ضحيتهما شابتان مغربيتان في أقل من شهر، فالضحية الأولى لمياء دنا خلف موتها موجة من الاستنكار والتنديد في صفوف الطلبة المغاربة الذين يدرسون الطب والصيدلة في جامعة غرناطة الإسبانية التي تستقطب المئات منهم كل سنة، كما كانت فعاليات المجتمع المدني الإسباني المدركة لحجم ظاهرة العنف ضد النساء بشبه الجزيرة الإيبيرية قد نددت بقوة بهذا الحادث، وانتقلت كونسويلو رومي، الوزيرة الإسبانية المكلفة بالهجرة إلى غرناطة لمواساة عائلة الضحية، بينما لم يكلف سعادة السفير عمر عزيمان نفسه عناء السفر بالطائرة، رغم التخفيضات المذهلة التي تقدمها شركات الطيران، إلى غرناطة للقاء عائلة الضحية أو لتسجيل الموقف على الأقل، وتذكير المهاجرين المغاربة بأن السلطات المغربية لها تمثيلية فوق التراب الإسباني، ولا تقتصر مهمتها في اقتطاع رسوم التنبر الباهظة عند كل تجديد لجواز السفر. ولم يظهر في الوقفة الاحتجاجية سوى القنصل المغربي في غرناطة، فيما أن حادثا مثل هذا كان يستدعي لفت الانتباه إليه حتى لا يسترخص الإسبان الدم المغربي، ولا يكرر بعض العنصريين منهم عبارة «مورو أقل» عند انتشار خبر وفاة مهاجر مغربي. وللتذكير فقط، فقد تعرضت الطالبة المغربية لمياء دنا لاعتداء بداية شهر مارس الجاري من طرف إسباني يبلغ من العمر 52 سنة، حيث قصد الشقة التي تسكنها رفقة طالبتين مغربيتين وصوب لها 20 طعنة أردتها قتيلة في الحال. الفرق بين السفير الإسباني في الرباط لويس بلاناس والسفير المغربي في مدريد عمر عزيمان، أن الأول يسهر على مصالح بلاده ومصلحة مواطنيها المقيمين فوق التراب المغربي، فيظهر في الميدان دائما يصافح الجميع ويبتسم في وجه الجميع، ويتابع كل ما يمس سلامة الإسبان عن كثب، ويقدم توضيحات لوسائل الإعلام، بينما يكاد يقتصر ظهور عزيمان في مدريد على الحفلات التي تستلزم ارتداء بذلات «السموكينغ». ولم تكد قضية مقتل الطالبة المغربية تهدأ حتى ملأت الصحف أخبار مقتل مهاجرة مغربية في مدينة طاراغونة بإقليم كاتالونيا على يد مهاجر مغربي، الذي كان ينوي الزواج بها ورفضت طلبه، فقام بقتلها بكل بساطة. وتعود تفاصيل الواقعة المأساوية الثانية، التي راحت ضحيتها سناء الحداد المنحدرة من مدينة العرائش، عندما كانت ليلة الخميس ما قبل الماضي في انتظار أخيها قرب محل عملها بشارع «كريستوفر كولون» ليرجعا سوية إلى المنزل، إلا أنها فوجئت على الساعة العاشرة مساء بشخص يكيل لها طعنات متتالية بطريقة وحشية، وذكر شهود عيان أن القاتل لاذ بالفرار مباشرة بعد طعنه للضحية. وتوفيت الشابة المغربية متأثرة بجروحها الجسيمة دقائق معدودة بعد وصول أخيها إلى موقع الحادث وسط مدينة طاراغونة، وكانت سناء الحداد، التي تعمل في محل للأنترنيت والهواتف العمومية، تقيم منذ أزيد من سنة في منطقة «باريو طوريفورطا». وتحيل هاتان الجريمتان على واقع الهجرة بصيغة المؤنث، إذ إن المهاجرة المغربية في غالبية الأحيان لا تستفيد من الحقوق التي تتمتع بها الإسبانيات، بل يجد الرجل المهاجر في الهجرة مناسبة لاستضعاف المرأة ومحاولة ممارسة الضغط عليها بعيدا عن عائلتها ووطنها، كما أنها تضطر إلى التعايش مع مجتمع يبدو غريبا عن منظومتها التي تربت فيها، بل حتى إن منديل الرأس الذي ترتديه يخيف الكثيرين في الحافلات العمومية والأسواق والمحلات التجارية، فوسائل الإعلام صارت تربطه بالتخلف والمحافظة وأحيانا بالإرهاب. إسبانيا تمنح الحرية مع احترام القانون، لكنها بلد يعاني من مشكلة الاعتداء بالعنف على النساء بشكل كبير، فالكثير من الإسبانيات يرحن ضحية عنف عشاقهن الذين يقمن برميهن من النوافذ أو يوغلن السكاكين في قلوبهن حتى تزهق أرواحهن، فتحرر المرأة الإسبانية في العقود الأخيرة بات يزعج الرجل ويصيبه، تماما مثل الثيران، بالهيجان. ميزان إعلامي مختل التحولات التي بات يشهدها المشهد الإعلامي المغربي لابد أن تصل رياحها إلى الجارة الشمالية، فتحرير القطاع السمعي-البصري والدخول في الجيل الثاني من التراخيص، والقوة التي باتت تمثلها الصحافة المستقلة المتمركزة بين محور الرباط والدار البيضاء، لابد أن تحدث نوعا من التوازن في العلاقة الإعلامية غير المتكافئة بين الرباطومدريد، فإسبانيا تملك أزيد من عشرة مراسلين محترفين في العاصمة المغربية، كل واحد منهم يقرأ المعادلة المغربية من الزاوية التي تتماشى مع مصالح المنبر الإعلامي الذي يمثله، وتموقعه من المغرب لأسباب تاريخية أو دينية أو سياسية، بينما لا تتوفر القنوات التلفزيونية المغربية على مراسلين في أقرب عاصمة أوربية تجمعها بالمغرب مشاكل حدودية، ويعيش فوق ترابها حوالي مليون مهاجر بين شرعي وسري، إن الاختلال في التوازن الإعلامي يجعل الرباط دائما هي الأضعف أمام مدريد، لكون تدفق المعلومات يأتي دائما من الشمال، والمعلومات التي تأتي من الجنوب لا يتم نقلها من الصحف أو وكالات الأخبار، بل يقوم بنقلها مراسل يكون موجودا في عين المكان ويحللها بطريقته.