لم يرتفع أداء قطاع النشر ببلادنا إلى المستوى المأمول بالرغم من إطلاق بعض المبادرات، وعلى رأسها سياسة الدعم التي أصبحت في حاجة إلى تقويم. إن ما تحقق لحد الآن، على مستوى جمالية الكتاب وتنوع الإصدارات كما على مستوى إطلاق بعض السلسلات المتعلقة بالترجمة أو الأعمال الكاملة أو الكتاب الأول أو سلسلة الإبداع، يوحي بتململ رسمي باتجاه استدراك بعض ما ضاع من الخيال المغربي، لكنه تململ يبقى محدود التأثير، وغير كاف بالنظر إلى انتظارات المثقفين المغاربة، وتطلعات المؤلفين منهم بوجه خاص. لم تحقق، بعد، سياسة النشر ببلادنا طموحات الكتاب المغاربة، سواء منهم الراسخين في أرض التأليف والكتابة، الذين سلخوا من أعمارهم سنوات طويلة في معركة ترويض الاستعارة وتفتيق الفكر، دون أن يتمكنوا، في أغلب الحالات، من انتزاع الاعتراف والتقدير المستحقين، أو الذين يتلمسون خطواتهم الأولى، بتردد وارتعاش أحيانا، في طريق الكتابة، التي غالبا ما تكون ممتلئة بالأشواك، كمرادف ملطف لمعنى الألغام التي تبتر اليد الكاتبة، وتذهب بأحلامها دفعة واحدة. وبين هذين القطبين، يمتد طابور من الأغلبية الصامتة من الكتاب، الذين غامروا بنشر بعض الكتب من مصروف العائلة، والذين يكتفون، غالبا، بالقيام بواجبهم الانتخابي في المؤسسات الثقافية، وبتتبع أخبار المحظوظين، حيث تتقاطع، في منطقة غامضة، اعتبارات السياسة والمصلحة، في صنع الحدث الثقافي وما يتصل منه بامتياز الاستحقاق والتتويج. نحن، إذن، أمام ثلاث طبقات من الكتاب، وكل طبقة تكابد مشاكلها الخاصة، في التعامل مع مؤسسات الثقافة والنشر بالبلاد. وإذا كانت طبقة الراسخين في الكتابة تنشر أعمالها الآن، بشكل أكثر يسرا، فإنها، مع ذلك، لم تجد بعد صداها اللائق في المجتمع الثقافي، بحيث تبقى أعمالها، غالبا، قارة غارقة تحت الجليد، تنتظر من يحفر عنها ويضعها تحت الشمس. أما طبقة المبتدئين فإنها لا تجد أمامها إلا مبادرات محدودة لتحويل حلمها الدامي إلى كتاب ورقي، لا تُوزع منه، بعد معاناة استثنائية، إلا بضع نسخ، فيما يُحتفظ بأطنان الأوراق منها في المخازن الباردة، تنتظر زمنا يُتقن أصحابه فن الحفريات. وفي انتظار ذلك، فإن كثيرا من أفراد هذه الطبقة ينظمون غارات أدبية وثقافية على مواقع الأنترنيت، كنوع من المبادرة التي تحمي اليد الكاتبة من ضربات اليأس(الفأس) القاتلة. أما طابور الكُتاب، الذي يمتد بين هاتين الطبقتين، فيكاد يشكل الطبقة المتوسطة، بلغة علماء الاجتماع، التي يُفترض فيها أن تصنع وتوجه الرأي العام الثقافي والأدبي. غير أن جل كتاب هذه الطبقة ينقسمون بين أغلبية مدعمة للسياسة الثقافية الرسمية، وبين أقلية موجهة لرسائل صامتة إلى التاريخ، لذلك فهي تُبدي حرصا على رعاية (طبع) كتب شخصية، دائما من مصروف العائلة، دون أن ننسى الإشارة إلى فئة ذات حضور ملموس في صفوف هذه الطبقة، اختارت أن توزع احتياطها من الخيال وحظها من الثروة الرمزية، على حانات المدينة التي تتكفل بنشر أعمالها الكاملة. أمام هذا الواقع الجزيري المتحرك بصعوبة بالغة، يتدبر كل كاتب ألمه الثقافي بطريقته الشخصية، دون أن يكون الدعم بردا وسلاما على كثير من القلوب الهشة، التي لا تتحمل صعقات إضافية، تأتي من سياسة ثقافية عامة تنتقي بعناية، وليس دائما لاعتبارات الاستحقاق الأدبي، من يفوز بحظوتها وبمباركة المشرفين عليها. إن إطلاق دور نشر صغيرة، من قبل بعض المغامرين، شكل دائما، في تاريخ النشر الحديث، الحل الملائم لاختراق أسوار ثقافة محافظة على القيم والترابية. وهو فعل إذا كان يتجه نحو المستقبل، كما هو مأمول، فما على أصحابه سوى التجرد من الحسابات الشخصية، والشروع في البحث عن الأصوات التي بإمكانها خلخلة المشهد.