الحرب الإعلامية الغربية.. تمييز بين خطرين حين يستعيد المرء شريط الحرب الإيديولوجية الإعلامية التي خاضها الغرب الامبريالي ضدّ عدوِّه الجديد (الإسلام، الصين)، سيلحظ أنه ميَّزَ فيه بين خَطَريْن وبَرْمَجَ أداءَهُ على نَحْوٍ يؤجِّل المعركة ضدّ خَطَرٍ بعيد المدى -مثَّلته الصين في التقدير الاستراتيجي الأمريكي (ومعها روسيا بدرجةٍ ثانية)- ليتفرَّغ للمعركة ضدَّ خَطَرٍ آنيّ يمثله الإسلام في نظره. ولقد بلغ ما عُرِف بالإسلاموفوبيا -في أداء الآلة الإعلامية الغرْبية- الذروةَ في العهد الجمهوري المحافظ الجديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وذلك للأسباب التي ذكرنا أعلاه (= مصالح قوى الصناعة الحربية وشركات النفط)؛ لكنها الفوبياء التي ستشهد اندفاعتَها الأكبر بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001. صورة الإسلام من يقرأ الخطاب الإعلاميّ الغربي (الأمريكي خاصة) حول الإسلام، وعلى وجه التحديد ذاك (الخطاب) المرتبط بمراكز القرار، سيلاحظ أن مَوَاطِنَ الاشتغال الإعلاميّ على صورة الإسلام أربعة: الإسلام «بما هو» رديفٌ للانغلاق وعدم الاعتراف بالآخر وقيمه؛ والإسلام «بوصفه» دعوة إلى العنف والقتل وإهدار حياة الُمخالفِين؛ والإسلام «بوصفه» ديناً يعادي الحرية وحقوق الإنسان؛ ثم «من حيث هو» استراتيجية كونية تهدّد الاستقرار والأمن في العالم! لقد أتتِ الحملة السياسية والإعلامية الكثيفة على «الحجاب» في بلدان الغرب تختصر الصراع ضد الوجه الأول المُخْتَرَع للإسلام كرديفٍ للانغلاق ولرفض الاندماج في مجتمعات الآخر أو التشبُّع بقيمه. ومثلما تحاشت تلك الحَمْلة الحديث عن الحق في الاختلاف -وهو من صميم القيم الكبرى للحضارة الغربية- وعن عدم جواز التدخل في خصوصيات الأفراد وأذواقهم في المأكل والملبس، كذلك كشفت عن تهافُتِ قضيتها أمام حقيقةٍ تدعو إلى الرثاء: كيف يمكن لخِرْقَةٍ تضعها صَبِيَّةٌ على رأسها أن تَهُزَّ منظومة القيم في مجتمع غربيّ؟ وكيف يمكن لأيَّ مواطنٍ غربيّ يهودي أن يُطْلق ضفائر شعره ويضع قلنسوة على رأسه -وهي رمزٌ ديني كالحجاب- من دون أن يُرَى في ذلك مساسٌ بقيم الغرب العلمانية؟! في الأثناء، انصرفتِ الحربُ الإعلامية على الإسلام والمسلمين إلى تشويه صورة المقاومة ووصمها بالإرهاب لمجرّد أنها تحمل السلاح وتقاتل، متعمِّدةً حجب الأسباب التي تدفع قوًى مثل «حزب الله» و«حماس» و«الجهاد» و«كتائب شهداء الأقصى» والمقاومة الوطنية العراقية» إلى حمْل السلاح (من أجل تحرير الوطن من الاحتلال). ولقد أتقنتِ الآلة الإيديولوجية-الإعلامية الغربية استغلال عمليات تنظيم «القاعدة» في نيروبي ودار السلام ونيويورك وواشنطن ومدريد والسعودية والأردن والجزائر، والتقاتل المذهبي في العراق، وتفجيرات لندن وتونس والدار البيضاء واستانبول... إلخ، للخلط بين أفعال المقاومة الوطنية (فلسطين، العراق، لبنان) وبين أعمال الإرهاب، ولتشويه صورة المسلمين (والعرب منهم خاصة)، وتصوير الإسلام وكأنه عقيدة تدعو إلى العنف والقتل، مستفيدة من فقر المعرفة الغرْبية(5) العامة بالإسلام: عقيدةً وتاريخاً وحضارةً. ظاهرة الاإهاب وتَلاَزَمَ ذلك مع سعْيٍ حثيثٍ في تفسير ظاهرة «الإرهاب» بغياب الديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية وبسيادة برامج تعليمية تكرّس ثقافة الكراهية وتنتج أجيالاً من الناقمين على قيم المجتمعات الغربية. وكان هذا التعيين لمصادر الإرهاب إيذاناً بإطلاق استراتيجية هجومية جديدة على بلدان العالميْن العربي والإسلامي تحت عنوان «الإصلاح»: الذي يبدأ بتغيير مناهج التعليم والتضييق على المدارس والبرامج الدينية دون أن ينتهي بإحلال نخب «ليبرالية» (أو ليبرالجية) عربية في السلطة عبر إسقاطٍ مظليّ لها من فوق (وحيث لا أحد سمع يوماً بأسماء «رموزها» الذين سُلِقُوا سلقاً!). وإذْ أسهبَتْ هذه الآلة الإعلامية الغربية في ردّ الظاهرة إلى مجتمعٍ ودولةٍ يعانيان من محنةٍ للحريات وحقوق الإنسان، لم تفسِّر لرأيها العام الغربيّ لماذا يقوم مواطنون بريطانيون مثلا -وهم نشؤوا في مناخ الحريات والديمقراطية- بعمليات إرهابية في قلب عاصمة وطنهم (لندن)؟! وأخيراً، كان على تلك الحملة الإعلامية أن تتفرَّغَ لتخويف البشرية من مخاطر امتلاك العرب والمسلمين (العراق، إيران) لأسلحةٍ استراتيجية (نووية أو كيماوية أو بيولوجية)، لأن ذلك -بحسب الحملة- سوف يسمح لهم باستعمالها ضد إسرائيل والغرب مدفوعين بمشاعر الكراهية وبالقيم الثقافية والدينية التي تدعو إلى العنف وقتل غير المسلمين! أو لأن ذلك يهدّد باحتمال امتلاك «الإرهابيين» لتلك الأسلحة واستعمالها ضد الغربيين. وفي الأحوال جميعاً، لا ينبغي السماح للعرب والمسلمين -في نظر المُعادين من الغربيّين- بحيازة سلاحٍ استراتيجي لأنهم يهددون به السلم والاستقرار في العالم، ولأنهم أتباع عقيدةٍ تعتبر العالم غير المسلم «دار حرب» يجب إخضاعها بالقوة! صورة شيطانية هكذا جرت صناعةُ صورة شيطانية لهذا العدوّ الجديد للغرب (الإسلام) في وسائط الإعلام الغربية لتبرير ضربه. ولقد جرى ضَرْبُه بقسوة عسكرية لا سابق لها في الوحشية منذ تدمير ألمانيا واليابان وصولاً إلى احتلال بعض أمصاره (أفغانستان، العراق، الصومال) وتهديد بعضٍ آخر منها (سوريا، السودان، إيران...)، دون أن ننسى حملات التضييق الأمنيّ على العرب والمسلمين في المَهَاجر الأوروبية والأمريكية، والاستفزاز المستمر لمشاعرهم الدينية في بعض صحافة الغرب(6). ولكن، لماذا نجح الإعلام الغربي في تجييش رأيه العام ضدّ الإسلام والمسلمين أكثر من تجييشه ضد الصين (وروسيا استطراداً)؟ لذلك -بَدَاءَةً- علاقةٌ بِبَرْمَجَةِ المعركة مع الأعداء، وحيث المعركة مع الصين تحتاج إلى إعدادٍ أطول. غير أنه يتعلق -ثانياً- بأنماط ردود الأفعال لدى المسلمين ولدى الصين على الحملة الأمريكية. لقد نجحت الصين في تجنيب نفسِها أيَّ صِدام مبكِّرٍ مع الغرب. أما العرب والمسلمون، فلم يُحْسِنُوا ذلك إن لم يكونوا قد تبرَّعوا لها بالذرائع (كما فعلت «القاعدة»!)، ناهيك من أن خطاب المقاومة لم ينجح في تبديد الصورة النمطية التي كوَّنها الإعلام الغربي عن المقاومة في المخيال الجماعي الغربي بوصفها «إرهاباً»! ما العمل؟ ما العمل لمواجهة هذا الطور الجديد من الهيمنة الثقافية-الإيديولوجية المسلَّحة بتِقَانَةِ المعلومات والصورة، الذاهبة إلى احتكار إنتاج الأفكار والرموز والأذواق واحتكار توزيعها على العالم من خلال الصورة، والذاهبة إلى صناعة الرأي الواحد والمعنى الواحد للأشياء؟ لم يكن سؤال: «ما العمل؟» -وهو سؤال الأسئلة في التاريخ وفي حقل الممارسة- مناسبة شكلية لتهيئة طقوس ارتجال أجوبة جاهزة عن السؤال. بل كثيراً ما كان سؤالاً مؤرِّقاً ومُنْهِكاً وأحيانا ضرباً من طلب المُحَال أمام آفاقٍ -بل أنفاق- مُنْسَدَّة لا يتبيَّن في حُلْكتها ضوءٌ أو وميضٌ سانح. وينطبق هذا التوصيف على سؤال «ما العمل؟» في حالتنا، أي في حالة الموضوع الذي نحن بصدد التفكير في أمْره: كيفية الردّ على الهيمنة الإيديولوجية الغربية المحمولة على تِقانة الاتصال والمعلومات. فالهيمنة تبدو شاملة وشرسة ويومية تنوء بحمل أعباء مواجهتها أو حتى ممانعتها أيةُ قوة وأيُّ برنامج عمل، لأنها -بكل بساطة- الهيمنة التي تَأَتَّتْ من، ونَجَمتْ عن، انقلابٍ كاملٍ في القوى والموازين على الصعيد الكوني: في العلم وفي التِّقَانة وفي استخدامهما في حقل الثقافة والإيديولوجيا. ومع ذلك، من الضروري الانتباه اليَقِظ إلى ما وراء مشهد الهيمنة من حقائق أو إرهاصات حقائق يحجُبها أو يحاول أن يحجُبَهَا مشهدُ الهيمنة ذاك وما يخلّفه في النفوس من مشاعر الحُبوط والقنوط؛ ومن الضروري -في الوقتِ عينِهِ- الانتباه إلى الديناميات الجديدة التي تُطْلقُهَا محاولات التفرُّد والهيمنة في صورة جدليات جديدة بين القوة والمدافَعَة، وتولِّدُها التناقضات الجديدة الناشئة في أحشاء النظام الدولي الجديد بين إرادة القوة والسيطرة وإرادة الممانعة والتغيير. لقد لاحظ كثيرون بعض علائم تلك الحقائق الكونية الجديدة في مجالات الاقتصاد (حيث تنمو الكتل الاقتصادية الإقليمية الكبرى لتكسر نظام الأوحدية القطبية)، والسياسة (حيث تنمو حركة احتجاج دولي -خارج الغرب وداخله- ضد احتكار القرار في العالم)، وفي الاستراتيجيا (حيث تتزايد قوة الصين وتتعافى قوة روسيا وتنجح بلدان في حيازة القدرة الاستراتيجية وكسر الاحتكار النووي)... إلخ؛ وسيكون من المفيد أن نلحظ تلك العلائم والإرهاصات في مجال الثقافة والإيديولوجيا: على صعيد ساحة الصراع الإيديولوجي الجديد، وأدواته، وقواه.