قبل الحماية بكثير، ظهرت طبقة اجتماعية بالمغرب ارتبط وجودها بالاستعمار، سمّاها المؤرخون بالمحميين. وهو وضع غريب وعجيب، ولكنه قانوني وشرعي بمقاييس ذلك الزمان. العجيب فيه أن واحد من الرعية، يمكّنه هذا الوضع المميّز من التمتع بالحماية الدولية لدولة من الدول الكبرى في ذلك العهد، فلا تحاكمه محاكمنا، ولا يسأله حكّامنا عن أفعاله وأقواله، لا يؤدّي لخزينتنا «صولديا واحدا» ممّا تفرضه ضرائبنا ورسومنا. ولك أن ترى محمد بن فرتلان مثلا يشهر في وجهك بطاقة الحماية الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية...كلّما تعلّق الأمر بإثبات للهوية. ومع توالي الأحداث على هذا البلد السعيد، تبيّن له أنه يواجه طابورا خامسا على حدّ قول المناهضين للنازية. هؤلاء كانوا عينا للاستعمار، وعناصر تخريبية في بعض الأحوال، ويؤدون أدوارا متعددة وملتبسة، لعلّ أهمها يتمثل في توسيع نفوذ الاستعمار وإضعاف مقومات البلد. في الحقيقة، هناك محميون جدد، على صيغة المحافظين الجدد، فاقوا أجدادهم المحميين بكثير. فبعد أن ذاب الأولون، ظهروا الآن بصفات أخرى، كانت ممقوتة في السابق، صفة الأعيان، وذوي النفوذ، وعلية القوم...ويكفي الملاحظ البسيط أن يتجول في مدننا الكبرى ليكتشف تقسيما حضريا يفصل ليس بين الأغنياء والفقراء فحسب، ولكن بين المحميين وغير المحميين. أحياء معزولة تماما عن أخرى، أحياء بشكلها المعماري، وصمتها المزعج توجه إليك رسالة تحذير: ابتعد من هنا... وبين صمت وآخر نباح كلب جهوري، يتلذذ في صفاقة واضحة بتنبيه قاس لطبلة أذنك «بأنك لست في المكان المناسب». منذ مدة قصيرة وصف لي بعض الأعزاء أحد الأحياء الجديدة بأكادير، لا للسكن بها، معاذ الله. فهذا من المستحيلات المؤكدة. ولكن للتمشي عبر طرقات هذا الحي النظيفة كما لو كنت بأحد الأحياء الأوروبية، ولتنعم بهدوء قلّ نظيره، في أرجاء مدننا العتيدة. و الأهم من ذلك، أن تحظى بمنظر اليخوت والمراكب الفاخرة التي ترسو على ضفاف هذا الحي مثل غزلان ناعمة. وفوق ذلك، ستتسنى لأعينك المتعبة أن تتملى بطلعة الماركات الباذخة، وهي تتصدر واجهات المتاجر والمطاعم والمقاهي التي سوف يفرض عليك الدخول إليها أن تكون مدجّجا بعدة رواتب شهرية، تنفقها مرّة واحدة كما لو كنت تسدد بفوهتك الدراهمية هاته، طلقة الرحمة باتجاه صدر الفقر...هذا المشي، كما قيل لي يشبه صنيع الفلاسفة الأوائل أصحاب المدرسة المشائية، الذين يفكرون في معضلات الوجود بهذا المشي المتأمل...ودون القيام بذلك، جلست أمام كأس قهوة منشغلا بالتفكير في وضعية قاطني مثل هذه الأحياء المحروسة بحرّاس أشداء، وكلاب مكمّمة وشديدة الغيظ. ألا يمكن أن نزعجهم بدخولنا الطارئ إلى عالمهم و دون استئذان وهم محتمون بأبراجهم العاجية. مثلما كان يفعل السكان البيض أيام الأبارتايد في جنوب إفريقيا، حتى جاءهم مانديلا من أحد السجون الأكثر قذارة فأفسد عليهم هذه النعمة... إنّ الانتقال من أحيائنا المعتادة إلى مثل هذا الحي، يشبه القيام برحلة جوية من بلد إلى آخر دون أن تغادر مدينتك. في القديم كان هناك في المغرب ما يشبه ذلك، ففي كل مدينة كان هناك محميون يضبطون ساعاتهم على توقيت لندن أو باريس، وحتى واشنطن... تجار وملاك يحلفون برأس القنصل الفلاني ولا يأبهون البتة، بما يحدث في بلدهم. قلوبهم قبل عيونهم على ما يحدث في عواصم محمييهم. ولما اشتدت وطأة المحميين على الناس، وتجبروا فإذا اقترضوا لا يردون دينا، وإذا استولوا على ملك، أو منفعة، لم يستطع أحد مساءلتهم، لأنهم يسارعون إلى إخراج الجواز الأجنبي الذي يحتمون به. سارع فقهاء وعلماء المغرب إلى تدبيج العديد من الرسائل والكتب في ذم حاملي هذه الباسبورات الأجنبية، منها «الرسالة في أهل البسبور الحثالة» للعربي المشرفي، و«سؤال كشف المستور عن حقيقة أهل البسبور» لمحمد إبراهيم الساعي، و«إيقاظ السكارى المحتمين بالنصارى، أو الويل والثبور لمن أتى بالبسبور» لأبي الحسن الفهري الفاسي...وكثير منها دون أن يكفّ هؤلاء عن العبث بسيادة بلدهم، بل إنّ أحد القناصل الإنجليز أسبغ حمايته على عدة مداشر بسكانها وما يمت إليهم بقرابة، فقط لأنها المكان المفضل لديه للصيد، وهم يعينونه عليه... بعض القناصل كان يعقد مزادا علنيا لتحديد ثمن الحماية أي البسبور بلغة ذلك الزمان... إن الزيارة لمثل هذه الأحياء التي تبتعد عنا سنوات ضوئية ومكهربة جدا لا تدفع المرء إلى الحقد الطبقي، ولكن إلى التفكير في هؤلاء مثل محميين جدد ليس بالحماية القنصلية، ولكن حماية اقتصادية لمغاربة لا يشبهوننا. وكما قال أحد القناصل في وصف هذه الظاهرة: «إنّ السلطان قد يفيق ذات صباح فيجد نفسه بدون رعايا...»