لم يكن عصمان مجرد زميل دراسة بالنسبة إلى الحسن الثاني بل كان أيضا صهرا وصديقا صدوقا له. لقد عايش عصمان خلال الخمسين سنة الأخيرة أحداثا بارزة من تاريخ المغرب المعاصر، وها هو اليوم بعد تقاعده يعود بذاكرته إلى الوراء ليحكي شهادته حول ذلك العصر. - كيف تقضي أوقاتك اليوم بعد التقاعد عن العمل السياسي؟ < أنا بخير. أعتني بنفسي وخاصة عبر ممارسة الرياضة، ورغم أنني لم أعد أمارس السياسة إلا أنني مازلت أتفاعل مع الحقل السياسي من خلال استقبال سياسيين من التجمع الوطني للأحرار وأيضا من أحزاب سياسية أخرى، كما أنني أنوي إلقاء محاضرات في المغرب وفي الخارج. - أنت رجل ذو مسار استثنائي، فأنت رجل دولة سواء بحكم دراستك أو مسارك المهني أو قربك من الحسن الثاني. هل تلقيت يوما التفاتة عرفان عما بذلته خلال مسارك المهني؟ < لقد تشرفت بالحصول على جوائز مرموقة عالميا، فقد فزت بلقب رجل السنة لعامي 2004 و2006 من قبل معهد «أميريكان بيوغرافيكال إنستيتيوت» (معهد السيرة الأمريكي)، وبالموازاة مع ذلك، اختارني معهد السيرة الدولي التابع لجامعة كامبريدج كواحد من بين مائة شخصية عبر العالم حظيت بتقدير هذا المعهد سنة 2004. - ولدت بمدينة وجدة وكان من الممكن ألا تتلقى تدريسا عصريا في مدرسة عصرية، ماذا كنت ستكون اليوم لو حدث ذلك؟ < مثل جميع أبناء جيلي، تلقيت دروسي الأولى في الكتاب أو لنقل المدرسة القرآنية، حيث لم أحفظ فقط القرآن الكريم، بل تلقيت أيضا دروسا في علوم اللغة العربية وفي الرياضيات. وأدين لتلك السنتين اللتين درست خلالهما في الكتاب بالذاكرة القوية التي أتمتع بها، فقد كان يكفي فقط أن أكتب أي نص على لوحة خشبية لكي يصبح محفورا في ذاكرتي. وكنت أتلقى الكثير من عبارات الإطراء بفضل هذه الموهبة. مازلت أذكر أول مرة أملى علي فقيه الكتاب فيها ثمن حزب من القرآن الكريم، وإذا بي أقترح عليه بتلقائية طفولية أن أعيد على مسامعه ذلك الثمن عن ظهر قلب، فكاد الفقيه، الذي لم يصدق أذنيه، أن يضربني بعصاه الطويلة لولا أنه تأكد من أنني جاد في ما قلت. هذه القدرة على الحفظ التي من علي الله تعالى بها ساعدتني كثيرا في مساري الدراسي بما فيه مرحلة الدراسة الجامعية وحتى بعد ذلك. قبل ذلك لم يكن بإمكاني أن ألج المدرسة العصرية إلا في سن الثامنة بفضل تدخل أحد أصدقاء أبي لديه لكي يدخلني إلى صفوف المدرسة، وبالفعل، تمكنت من اجتياز جميع مراحل الدراسة بسرعة قياسية. - إلى درجة أنك حصلت على مقعد في المعهد المولوي إلى جانب ولي العهد آنذاك مولاي الحسن. كيف حصل ذلك؟ < حدث ذلك بفضل سلسلة من المصادفات التي غيرت حياتي كلها. حدث ذلك عام 1947، حين تم اختياري ضمن ثلة صغيرة من التلاميذ لكي نجتاز الجزء الثاني من الباكالوريا مع الأمير مولاي الحسن. وفي ذلك العهد، لم يكن يحظى بمثل هذا الامتياز سوى أبناء علية القوم، لكن في تلك السنة، قرر المغفور له الملك محمد الخامس أن يستفيد من هذا الامتياز أكثر التلاميذ نبوغا من جميع أنحاء المغرب، وأن يكون المعيار الوحيد في ذلك هو الاستحقاق. وكان حدث أنني تخطيت سنة دراسية كاملة بسبب تفوقي، وهكذا وجدت نفسي في نفس المستوى الدراسي الذي كان يدرس به العاهل الراحل رحمه الله. ذات يوم استدعاني باشا وجدة، فذهبت للقائه وفرائصي ترتعد من الخوف. استقبلني وسألني إن كنت أرغب في متابعة دراستي مع مولاي الحسن. ترددت قليلا لأن ذلك كان قد حدث في شهر نونبر، وكانت السنة الدراسية قد بدأت قبل أسابيع. هنا تدخل رجل يدعى المهدي بنبركة، الوجه البارز آنذاك في حزب الاستقلال، هذا الحزب الذي كان أخي بنعودة هو ممثله في وجدة. اتصل المهدي بأخي وبلهجة صارمة، نقلها إلي أخي، أمرني أن أحضر حقيبتي وأن آتي إلى الرباط، ففعلت. - عندما وصلت إلى الرباط، وجدت بنبركة بنفسه في استقبالك في محطة القطار؟ < لم يستقبلني المهدي بنبركة شخصيا فقط، وإنما قضيت أيضا نهاية الأسبوع كلها في بيته في جو أسري، ويوم الاثنين كان هو من اصطحبني إلى المعهد المولوي. هذا يبين الاهتمام الكبير الذي أولاه المهدي إلى مسألة التحاقي بالمعهد المولوي. هذه المسألة لم تسترع فقط اهتمام الوطنيين من أمثال بنبركة ولكن أيضا تابعها المستعمرون الفرنسيون. لقد تتبعها عن بعد برونيل الدكتاتور الجبار الذي كان على رأس منطقة وجدة، كما تتبعها بونيفاس من الدارالبيضاء، لقد استدعاني برونيل مرتين، في المرة الأولى استقبلني مساعده الذي حاول بجميع الوسائل أن يقنعني بالبقاء في وجدة، ووعدني أن يساعدني بجميع الطرق الممكنة لكي يكون لي مستقبل مهني ممتاز كمهندس. وفي المرة الثانية استقبلني برونيل شخصيا حيث حاول أن يثنيني عن الذهاب إلى المعهد المولوي، بل بلغ به الأمر إلى أن ألف قصة غير حقيقية حين قال لي إن خطأ ما حدث في اسم التلميذ المختار، وإنني لست أنا من تم انتقاؤه للدراسة في المعهد المولوي. وعندما تحريت في الأمر وجدت أنه كذب علي. - لقد ذكرت موهبتك الأولى وهي قوة الذاكرة، الحسن الثاني أيضا تمتع بذاكرة أسطورية. كان هذا قاسما مشتركا بينكما. هل كان هذا هو سر العلاقة المميزة التي ربطت بينك وبين الراحل الحسن الثاني؟ < بالفعل كان لدينا فعلا هذا القاسم المشترك، مع فرق أن ذاكرة الحسن الثاني كانت تعتمد على السمع، أي أنه كان يكفي أن يسمع شيئا مرة واحدة لكي تسجله ذاكرته على الفور. ترجمة سناء ثابت