عندما حطت طائرة لويس رودريغيث ثباتيرو بمطار الرباط قبل سنة، شاهد الجميع تلك الابتسامة البشوشة التي باتت جزءا من تقاسيم الإسكافي الأول في الجارة الشمالية، ولا ينزعها عن وجهه حتى في أكثر الأوقات حلكة، وهو ما حرك تعليقا كامنا في نفس أحد الصحافيين المغاربة قائلا: «ما يعجبني في ثباتيرو أنه دائم الابتسام، يأتي ويرحل بالابتسامة نفسها». إنها الابتسامة التي وجد فيها ثباتيرو عاملا مساعدا لكتم أنينه من مطارق السلطة التي كانت تدق المسامير كل يوم في جميع أنحاء جسده. إن رقص ثباتيرو لم يكن كله فرحا، فالطير المذبوح يرقص من شدة الألم. لم تكن الأربع سنوات التي قضاها سليل الاشتراكيين الإسبان طريقا معبدة بالورود، بل مسالك أشبه بحقول الألغام القابلة للانفجار في أية لحظة، ورغم امتلاكه حاسة شم سياسية عالية بحكم السنوات الطويلة التي قضاها في قبة البرلمان بين ثعالب السياسة الإسبانية، فثباتيرو كان لا يمتلك خريطة حقل الألغام، لذلك كان يسير وعيناه مغمضتان، فتمنى العديدون حظا سعيدا للقائد الاشتراكي الشاب الذي طالما رأى فيه فيليبي غونزاليث خليفته منذ أن أمسك دفة سفينة الاشتراكين بعده عام 2000، لكنهم ظلوا يترقبون بأنفاس محبوسة خطواته الحذرة في سبيل إعادة أمجاد الاشتراكيين التي علاها الكثير من الغبار بسبب الفضائح المالية التي تورطوا فيها في السنوات الأخيرة من ولاية الأسطورة غونزاليث. عندما استلم ثباتيرو مفاتيح المونكلوا من سابقه خوسي ماريا اثنار، كانت إسبانيا ترتدي ثوبا أسودا وتحصي شهداءها في «موقعة» قطارات الموت التي خطط لها تنظيم القاعدة وضبط عقاربها بشكل جعل أثنار يخرج من المونكلوا صاغرا مثل فأر أجرب، بعدما حضر كل شيء ليكون تقاعده السياسي أشبه بكتاب ملحمي. ومثل تلميذ نجيب في مدرسة السياسة تعلم ثباتيرو من الدرس الذي لقنته الأيام لأثنار، فأراد لخطواته الأولى أن تسير في الاتجاه الذي ترسمه بوصلة قلوب الإسبان الذين خرجوا إلى الشارع ضد مشاركة بلدهم في حرب لا طائل من ورائها. وبمجرد ما دخل الإسكافي إلى حصن المونكلوا وجد أحذية كثيرة تنتظره لإصلاحها، فبدأ بأحذية السياسة الخارجية بإعادة جنود إسبانيا من العراق وإعلان القطيعة مع الرئيس الأمريكي جورج بوش، حالما بتشكيل ثالوث محور باريس-برلين التاريخي، وأعاد جو الثقة مع الجار الجنوبي الذي زعزعه أثنار بنزعته اليمينية الاحتقارية للمغرب، لقد كان ثباتيرو خلال العامين الأولين أشبه بطائر محلق في السماء يحط كل مرة بطائرته في بلد، بعد أن كانت دول كثيرة غاضبة من سياسة أثنار، خصوصا في أمريكا اللاتينية والعالم العربي، خصوصا أنه كان يطمح إلى حشد التأييد بخصوص مبادرة تحالف الحضارات التي رأى فيها وسيلة لدفع بلاده إلى الأضواء غير مهتم بالسكاكين الحادة التي كان يغرسها اليمين في ظهره، وقهقهاته المرتفعة التي تصف مبادرته بالسخيفة. وبعدما اطمأن قلب ثباتيرو على السياسة الخارجية، وجه مدية عقله إلى الداخل، فحاول الإسكافي أن يقتلع أكبر مسمار دام في الحذاء الإسباني بجر منظمة إيتا الباسكية إلى التفاوض، ووقف إطلاق النار، ونجح فعلا في ذلك، فلاحظ الجميع وقتها أن ابتسامته ازدادت عرضا، لكن هذه الابتسامة الشهيرة سرعان ما انطفأت مثل شمعة في مهب الريح، عندما هزت قنابل إيتا مطار مدريد-باراخاس مودية بحياة مهاجريين اكوادوريين، فالمسمار الذي حاول الإسكافي اقتلاعه التوى وانغرس في جسده، إنه الجسد الذي لم ترحمه سكاكين اليمين الذي وصفه بالخائن، لأنه قبل التفاوض مع منظمة إرهابية، فلم يكن من ثباتيرو غير العودة إلى نفس سلاح سابقه أثنار، فأوجد صيغا لشرعنة حرب بدون هوادة لاصطياد رؤوس إيتا الباسكية. شهدت فترة ثباتيرو ارتفاعا في ثمن العقار إلى درجة أن الإسبان شطبوا من أجندة أحلامهم سطرا عنوانه امتلاك شقة، رغم تشجيعات البنوك، فقرر رئيس الوزراء تقديم مساعدة شهرية للشباب الراغب في الحصول على السكن، وعندما خشي على معدل النمو الديموغرافي شجع على الإنجاب بتقديم هدية 2500 أورو لكل طفل يرى النور تحت سماء مملكة قشتالة الناهضة. لقد كانت أحلام ثباتيرو بعرض المحيطات، وكانت تلك أول مرة يجرب فيها السباحة في المحيطات العميقة بعدما ظل يسبح في الأنهار طيلة حياته، كان في وجه المدفع طيلة الوقت، وربما جعله طموح الشباب واندفاعه يثق بجرعة زائدة في منظمة إيتا ويبعث بخوان كارلوس وعقيلته إلى مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين دون إجراء حساب الاحتمالات بشأن رد الجار الجنوبي. ورغم مطالبة اليمين له اليوم في الحملة الانتخابية بأن يعتذر عما فعله بجلوسه مع إيتا على طاولة واحدة والتسبب في رفع معدلات البطالة وبطء عجلة الاقتصاد، فإنه ما زال مبتسما، فقد تعلم، مثل حصان محمود درويش، ألا يعتذر.